الشبه... تلك رسالةُ عائلة الأسد الحاكمة
الجُملُ التي شدّها اللقاءُ الصحافي العابر من فم بشار الأسد، حين ظَهرَ مُشاركاً في انتخابات مجلس الشعب السوري منتصف شهر يوليو/ تموز الجاري، كانت كفيلةً بأن تُظهره متعالياً، لكن ببذرةِ صوتٍ خفيضٍ ومُعتم، إذ لا يزال يظنّ نفسه منتصراً على دولٍ كثيرة وزعماء أكثر. وقد تجد مزاعمُه المُستندة إلى انغماسه التامّ في "جنون العظمة" دروباً وفيرة تسلكها في كلّ مرّة يُثبِتُ فيها للعالم امتلاكَه لمسلكٍ عقليّ مُختلّ، الأمر الذي يساعده كثيراً على أن يظلَّ طافياً بخفّةٍ فوق خرائب سورية - المنتصرة كما هو، متأهّباً لإنتاج مزيدٍ من معنى الخراب. ولعلّ ظهوره المرئي ذاك سلّمهُ إلى سحنةٍ خائبة، متيبّسة، تتملّص من مجازات أيّ انتصار محمومٍ قد يُبدعهُ عقله المريض والملتوي، حينها تحدّث بصوتٍ خفيضٍ، مُسطَّحٍ، بلا تضاريس ناتئة تعكس انتصاره المزعوم، فقلّل من الجدوى المُحتمَلة للقائه مع الأتراك.
ستجد هذه الملامح لرئيس النظام السوري من يشاركهُ فيها، وسنجدُ نحن كيف أنّ ابنه البكر حافظ الأسد سرعان ما استردّها منه، وكأنها دَينٌ واجب السداد جاء به الشبه، وهو شبهٌ معلومٌ لا يخصٌّ الشكل فقط، وإنّما امتدَّ إلى مُخرجات الحنجرة، ليصير صوتهما متماثلاً على نحوٍ مُؤكّد، وهذا الذي جرى استدراجنا إليه يوم انتخابات مجلس الشعب السوري، حين ظهر حافظ "جونيور" بين الناس، يُوزّع أقساطاً متساوية من التحيّات المبتسمة، وسمعنا شخصاً يقول له: "مثل صوت الوالد"، وكان بالفعل كذلك، صوتهُ نسخةٌ عن صوت أبيه، حتّى إنّ شقيقته زين الأسد، التي كانت إلى جواره يومها، ظهرت هي الأخرى بنسخةٍ مشغولةٍ بعنايةٍ وإمعان، تقلّدُ فيها والدتها الغائبة في قبو سرطان الدم (كما قيل)، ظهرت زين الأسد بتسريحة شعر كتسريحة شعر والدتها المعتادة، وبملابسَ تُقلّدُ فيها ذوق أسماء الأسد، ظهرت كأنّها سيدة القصر الأولى، لكن بنسخةٍ فتيّة متعافية من مكائد الزمن، ومن موجتَين متتاليتَين من مرض السرطان. فلماذا تصرُّ عائلة الأسد على إنتاج هذا الشبه وتكريسه، ومن ثمّ ترويجه؟ وبماذا ينفعهم؟
منذ مطلع السبعينيّات، تحدّدت ملامحُ جديدةٌ للسلطة في سورية سلطةً كاريزميّةً تدور حول حافظ الأسد، وبقيت كذلك ثلاثة عقود
منذ مطلع سبعينيّات القرن الماضي، تحدّدت ملامحُ جديدةٌ للسلطة في سورية سلطةً كاريزميّةً تدور مفرداتها كلّها حول شخصية حافظ الأسد، وبقيت كذلك طيلة ثلاثة عقود من الزمن، السلطة هي الرئيس، والدولة هي الرئيس، والرئيس كلاهما، وما إن انتقلت السلطة إلى بشّار الأسد (يمثّل وأشقاؤه الجيل الثاني من الأسرة الحاكمة) قبل نحو ربع قرن، حتّى تبدّت للعيان عيوب التوريث السياسي ونقائصهُ الكثيرة، ولم يستطع رئيس النظام الحالي الاحتفاظَ بالسلطة الكاريزميّة التي نشأ عليها نظام الحكم الحالي في سورية، ولا سيما بعد ثورة عام 2011 ضدّه، واستعانته بالتدخّل الخارجي لأجل تمكينه من مواصلة حكم البلاد، وهذا بالضبط ما جعل النظام يتعثّر بنفسه، ويهوي مرّات كثيرة، ربّما أولها منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في فبراير/ شباط عام 2005، وصولاً إلى انتفاضة السويداء المستمرّة منذ أغسطس/ آب عام 2023، وهو النظام الذي صمّمه حافظ الأسد على مقاس شخصيته، لكنّه تناسى أنّ نظامه في الحكم سيكون مجافياً لشخصية ابنه المُهتزّة، ولمحدودية إدراكها وبصيرتها، لذلك يرى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أنّ السلطة الكاريزميّة قد يكون أمدها قصيراً إن لم يستطع القابض على السلطة تحويل سلطته مؤسّسةً دائمة، تكون قويةً وفعالةً ومقنعةً عندما تتمكن من تغيير النظام السياسي بما يتماشى مع رؤية الزعيم الكاريزمي.
وهذا الذي أدركه حافظ الأسد منذ جاء إلى السلطة بانقلاب خاطف حمل اسم "الحركة التصحيحية" عام 1970، إذ حوّل المؤسّسات الحكومية القائمة منافذَ يبيع من خلالها سلطته، ويُرغم الجميع على الشراء، غير أنّ ابنهُ الفاقد للكاريزما الملائمة لملء ذاك الفراغ في أعلى هرم السلطة، والناجم عن موتِ أبيه عام 2000، جعله متيقّناً من استحالة مزاولته لهذا الدور، والذي ربّما زجَّ به داخل رُهابٍ حقيقي، وقاده فيما بعد إلى الالتحام بنموذج شخصيةٍ فصاميّة تعيش واقعاً افتراضياً لا يتطابق مع الواقع الفعليّ، بل ويشذُّ عن قوانينه. يقول ماكس فيبر أيضاً: "لا تشكّل الكاريزما ميزةً أساسيةً للقائد فحسب، بل إنّها تُحدّد أيضاً العلاقة بين القائد والاتباع، فكلّما ازداد رصيد هذه الكاريزما قوةً، ازدادت العلاقة الإيجابية بين الطرفَين، والعكس صحيح". فيكون من الهيّن هنا تتبّع الإرث الانهزامي الذي استولى على مسيرة بشّار الأسد وريثاً غير شرعيّ، لسلطةٍ غير شرعيّة أيضاً، بالمفهوم الدستوري للعقد الاجتماعي، ثم فقدانه التدريجيّ والمُؤكَّد لسطوة حضورِ "شخصيةِ الطاغية" كاريزما مُهِرَ بها النظام السياسي في سورية منذ عام 1970، وهذا نجده بوفرة في كلّ مرّة كان يتقدّم فيها النفوذ الإيراني، والروسي داخل المؤسّستَين العسكرية والأمنية، كما في باقي مؤسّسات الدولة.
مهما جازفنا لفهم العدمية التي جَبَلَ بها بشّار الأسد خياراته في التعامل مع البلاد، سنقف على عيوب الشخصية الدونكيشوتيّة داخل وعيه
ومهما جازفنا لفهم العدمية التي جَبَلَ بها بشّار الأسد خياراته في التعامل مع البلاد، سواء اتكأنا على المنهج التجريبي الاستقرائي، الذي يبجّله كثيراً الفيلسوف الإنكليزي جون لوك، أم استمالنا المنهج العقلي الاستنباطي، الذي يناور به دوماً الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، سنكون دائماً واقفين على مشارف إحالات ثابتة تجرّنا إلى عيوب الشخصية الدونكيشوتيّة التي استقرّت داخل وعي بشّار الأسد، وأضاف لها طواحين هواءٍ أكثر بكثير من التي صوّرها الروائي الإسباني، ميخائيل سيرفانتس، حين كتب روايته الشهيرة تلك (دونكيشوت)، ليصير من السهل عليه إقناع نفسه بأنّه الفارس النبيل، وربّما الوحيد من نوعه على وجه الكوكب، الذي يعالج برمحه ألف عدوّ، وألف دولة معادية، وينتصر بدعمٍ مُؤكّد من الأجرام السماوية، ضمن سياق تصوّراته العقلية والنفسية فقط، ذات الطابع الهذياني المريض.
ولعلّ الجيل الثالث من تلك العائلة (يتجسّد بأبناء بشّار الأسد بصورة خاصّة) يُرادُ له أن يظهر لامعاً برّاقاً، بلا دماء عالقة فوق بشرة الوجه، أو الأصابع المتلكئة، إذ لطالما صُوِّر بشّار الأسد في كثير من الرسوم الكاريكاتيرية التي نالت منه، والدماءُ تُحدّق بنا من وجهه ويديه، وكأنّ الشبه بين الأب وابنه يُرسَل من هنا إلى مساحةٍ آمنة، وكأنّ بشّار الأسد يتجسّد بالصوت والصورة في ابنه حافظ "جونيور"، لكن بلا دماء تُعذِّب من يراها، وبلا السرديّة المُرّة عن تدمير البلاد ونهبها، التي تُطلُّ علينا موسيقى تصويريةً ترافق رئيس النظام في كلّ ظهورٍ علنيّ له. هو التطهّر من الشبه بالشبه إذاً، ولعلّ هذا ما يرمي إليه "ترويجُ" حافظ بشّار الأسد نسخةً غير ملوّثة من أبيه، وكذلك زين بشّار الأسد في آخر ظهور لها برفقة شقيقها، والذي بدت فيه كأنّها أسماء الأسد، ولكنها غير ملوَّثة بشهوة المال والسلطة والاستهتار بالشأن العام.