السيسي يعمّق معرفتنا بماكرون

09 ديسمبر 2020

ماكرون والسيسي في مؤتمر صحفي في باريس (7/12/2020/فرانس برس)

+ الخط -

انتصارات عبد الفتاح السيسي تتوالى. النجاة من الجرائم المرتكبة منذ الانقلاب تبقى العنوان العريض. اختياره من دونالد ترامب ديكتاتورا مفضلا على حساب كل باقي الطغاة، وما أكثرهم، وسام شرف بالغ التعبير. غضّ الطرف من إيمانويل ماكرون عن السجل الأسود للديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر، لا يدين السيسي بقدر ما يعمّق معرفتنا بماكرون نفسه، ويضعه في موقع شجب أخلاقي. طيف واسع من الفرنسيين فعلوا ذلك من وزن عريضة لـ20 منظمة فرنسية حقوقية ورسالة من 15 نائباً أوروبياً نشروها في صحيفة لوموند يستفظعون فيها اكتفاء ماكرون بمجرد "إشارة عابرة لحقوق الإنسان في نهاية مؤتمر صحافي"، ناهيك عن إعراب المنظمات عن "ذهولها لرؤية البساط الأحمر ممدوداً" للسيسي في فرنسا، فضلاً عن قرع الطبول وعزف الأبواق ومرافقة الحرس الجمهوري الفرنسي السيسي في وسط العاصمة مثلما يحصل مع الرؤساء المحترمين. الشكر الفرنسي الخاص للزائر المصري على الإفراج عن مسؤولي المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (مع أن القضاء المصري مستقل عن السلطة التنفيذية!) يزيد علامات الأسى على الوجوه. أما تنصيب السيسي من ماكرون في مرتبة منظّر، فذاك ما كان الرئيس المصري ولا مطبّلوه يتوقعونه ولا في المنام. السيسي، الذي قلما أجمع العالم على ضآلة مؤهلات مسؤول مثلما فعل في وصف الرئيس المصري، محق بحسب ما أوحى به ماكرون في ما يتعلق بنظريته الأثيرة: لكم حقوق إنسانكم (في أوروبا) ولنا حقوق إنساننا. العبارة التي سبق أن أثارت ذهول ماكرون حين قالها له السيسي عام 2017، بدت أنها أقنعت الشاب الفرنسي مع مرور السنوات. ودليل ماكرون على صحة نظرية السيسي قاطع: "لن أربط مبيعات الأسلحة الفرنسية لمصر بسجلها في حقوق الإنسان والديمقراطية كي لا نضعف قدرة القاهرة على محاربة الإرهاب في المنطقة"، قال ماكرون. المعادلة سهلة إذاً: كلما ارتفع منسوب الحريات وحقوق الإنسان وتعددت الأحزاب وتحرر الإعلام من سلطة الأمن والمخابرات، كلما اكتسب الإرهاب مساحات إضافية. وبالضد من ذلك، كلما افتُتح سجن إضافي، استتب الأمن أكثر، وكُسرت شوكة الإرهاب. اسألوا شمال سيناء. 

يهوى ماكرون إظهار نفسه شاباً عصرياً وصريحاً. وفي غضون سعيه لادعاء الصراحة، تمرّ عشرات الأكاذيب. لو أراد الإيحاء بالصدق فعلاً، لقال إنه لن يوقف صفقات السلاح الفرنسي إلى مصر لأنه بين عامي 2013 (عام الانقلاب) و2017، كانت باريس هي المورد الرئيسي للسلاح إلى القاهرة، وآن الأوان لاستعادة موقع الصدارة. لو تكلم الشاب الفرنسي بصدق، لقال إن كل انتقاد نوجهه للسيسي حول حقوق الإنسان والديمقراطية، يقرّبه ميلاً إضافياً من موسكو وبكين. لكن ذلك لا يقنع كثيرين، فذاك دبلوماسي فرنسي يقول لوكالة "رويترز" على هامش التصريحات العجيبة يوم الاثنين: "لا أعرف ما الذي سنكسبه من وراء هذه الزيارة"، وكأنه يقصد أن الشكل أحياناً أهم من المضمون. كأنه يقول إنه حتى عندما نهمش الأخلاق كلياً في السياسة والعلاقات الدولية، أمكن تحقيق المصالح من دون إهانة أنفسنا بهذه العلنية على شاكلة ما يفعله ماكرون في كل مرة يمدّ السجاد الأحمر للسيسي ويرسل مبعوثيه إلى بشار الأسد ويحاول إنقاذ السلطة في لبنان من أزمتها ويدافع عن فلاديمير بوتين. لم يكشف سراً مدير منظمة "هيومن رايتس ووتش" في فرنسا بنيديكت جانيرود حين قال إن "إيمانويل ماكرون يعطي شيكاً على بياض للقمع الشرس الذي يمارسه السيسي على المجتمع المدني"، وهو بذلك ربما يحذّر بقايا الفدائيين المعارضين في مصر من أن أياماً أكثر سواداً تنتظرهم.

سوريالية المؤتمر الصحافي المشترك للرئيسين كانت استثنائية. ماكرون يقول إن لدينا اختلافات حول حقوق الإنسان، على أساس أن حيوات البشر وحرياتهم هي وجهة نظر يمكن الاختلاف حولها، فيجيبه السيسي بأن لديّ 100 مليون مصري عليّ أن أطعمهم! 

كبيرة كانت الحيرة يوم الاثنين: من أشعرنا بالعار أكثر: السيسي أم ماكرون؟