السوريون بين المُحال والزوال
ليس بداية بالأرمن، بالطبع، مروراً بالأرناؤوط، والجزائريين، وصولاً إلى الفلسطينيين، فاللبنانيين والعراقيين، استقبلت سورية في القرنين الماضيين شعوباً شتى، من دون أن تكون هناك أيّة مظاهر عنصرية تجاههم. وحين بدأت التغريبة السورية عام 2011، لا يخفى على أحدٍ تعرُّض السوريين في الدول المُضيفة (أو بعضها) لحملات ظالمة تحت مسمّيات شتّى. وإذا أردنا أن نكون أكثر إنصافاً وواقعية، سنبتعد عن لغة اللوم والذمّ، ونجزم أنّ هذه الممارسات الجائرة ليست سوى انعكاس لوحشية النظام الحاكم، ومفاعيل السياسات الفاشلة التي ولّدت انتهاكاتٍ وانهياراتٍ، مذ بدأ السوسُ ينخر المجتمع السوري، ويؤسّس لثقافة الطأطأة والاستسلام، لتدخل البلادُ مدار الطامّة الكبرى، بعدما أصبحت القيادة تفرُّداً والسياسة استبداداً. من حينها، لم يبقَ للإنسان السوري قيمة أو وزن، تحكُمه قيادةٌ قصيرة النظر، يسحرها الغرور والجبروت. وبينما يعيش ملايين السوريين اللاجئين في حالة من القلق بسبب تنامي خطاب العنصرية والتحريض ضدّهم، وتزايد الحديث عن خطط ترحيل أعداد كبيرة منهم، من تركيا على سبيل المثال، انتشر، مؤخراً، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلٌ مصوّر يوثق ركل رجلٍ تركي مسنّةً سوريةً على وجهها، بحجة أنها "تخطف أطفالاً". الأمر الذي فجّر تضامناً واسعاً بين السوريين والأتراك، استهجنوا وحشية المعتدي، معتبرين أنّ الذي مسّ تلك العجوز السورية يمسّ البشرية جمعاء.. وليست هذه اللمحة الخاطفة إلا مدخلاً للإشارة إلى معاناةٍ لا يمكن القفز فوقها عند الحديث عن أكثر من 12 مليون سوري يكابدون حياة القهر والتشرّد. معلّقة أمانيهم بين الأرض والسماء من دون جذور. يؤمنون أنّ السعادة ليست من نصيب أهل الأرض، وإنما من نصيب أهل السماء، لذا يستعجلون الرحيل إليها بالجملة، بعد أن تحوّلوا إلى متسكّعين مكلومين على موائد اللئام والمتطرّفين.
تزايد خطاب الكراهية تجاه السوريين الذي تنشره أحزابٌ تركية معارضة، تستخدم ورقة اللاجئين لحشد أنصارها في الانتخابات الرئاسية المقبلة
وفي واقع الأمر، تحدُث بين حين وآخر مثل هذه الاعتداءات الصادمة، في ظلّ تزايد خطاب الكراهية تجاه السوريين الذي تنشره أحزابٌ تركية معارضة، تستخدم ورقة اللاجئين لحشد أنصارها في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وعلى الرغم من أنّ الرئيس التركي، أردوغان، حاول مراراً وتكراراً طمأنة اللاجئين السوريين، على أنه لن يرسلهم أبداً إلى بلادهم بالقوة. في المقابل، أكثر الشخصيات السياسية التركية التي تركّز على موضوع اللاجئين السوريين، أوميت أوزداغ، وهو زعيم حزب النصر المتطرّف، الذي لا يفوّت أيّ مناسبة للهجوم عليهم، مغذّياً حملات عنصرية ضدهم، لا تقتصر على خطاباته أو لقاءاته مع وسائل الإعلام، بل يخرج إلى المدن التركية ليصوّر اللاجئين ويدعوهم، بلؤم واضح، إلى العودة إلى بلدهم. سبق أن أعرب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان عن بالغ قلقه إزاء تصاعد مظاهر الحقد المتطرّف تجاه اللاجئين السوريين في لبنان، وبيّن أنّ الحملات الميدانية والقرارات العنصرية رافقتها أيضاً لافتاتٌ مهينة غزت الشوارع، وحملات إعلامية موجّهة لقنوات تلفزيونية لبنانية. على سبيل الذكر، نشرت إحداها على موقعها مقالاً ذكرت فيه أنّ اللاجئين السوريين وراء ارتفاع نسبة السرطان في لبنان! في وقتٍ اتهمت فيه منظمةُ العفو الدولية الأمنَ اللبناني بارتكاب جرائم مروعة بحقّ السوريين الذين احتجزهم تعسفياً خلال سنوات الأزمة، بدعوى مكافحة الإرهاب، مستخدماً أساليب تعذيب تفوق في وحشيتها الانتهاكات المستخدمة في أسوأ السجون سمعةً لدى النظام السوري.
تجاوزات الجيش والاستخبارات السورية في لبنان، وهي ممارساتٌ سمّاها بشار الأسد متأخراً "الأخطاء"، عزّزت تراتبيّة الكراهية الغزيرة في الثقافة السياسية والشعبية اللبنانية
يعني ذلك أنّ العلاقة التاريخية (السورية – اللبنانية)، ومنذ نشأتها، تأثرت بتراكماتٍ حكمتها المصالح الحزبية والسياسية، أفضت إلى وضع بذرة هذه الظاهرة النشاز، التي تلقفتها الأحضان ذات التوجهات السياسية المختلفة، ووظّفتها بخبثٍ في خدمة أهدافها. ولا شك في أن تجاوزات الجيش والاستخبارات السورية في لبنان، وهي ممارساتٌ سمّاها بشار الأسد متأخراً "الأخطاء"، عزّزت تراتبيّة الكراهية الغزيرة في الثقافة السياسية والشعبية اللبنانية. زاد الطين بلة، أنه وأمام "الغزو" الروسي أوكرانيا، دخلت الأخيرة على خط تصدير اللاجئين بكثافة عالية. وكانت وسائل الإعلام حاضرةً لجذب انتباه المجتمع الأوروبي إلى ضرورة احتضان الأوكرانيين، بينما وقع عديد منها في سقطاتٍ أخلاقية وغير مهنية، تشفّ عن عنصريةٍ فجّة. ما قيل في هذا السياق كثيرٌ ومهين، وأكثره استفزازاً، ربما، ما جاء على لسان مراسلة قناة إن بي سي الأميركية، كيلي كوبيلا، خلال تغطية إخبارية: "إن اللاجئين الأوكرانيين ليسوا من سورية، إنهم مسيحيون وبيض مثلنا". أيضاً عضو مجلس النواب الهولندي، وزعيم حزب الحرية (اليميني)، خيرت فيلدرز، وصف اللاجئين السوريين في بلده بالمستغلين، ودعا إلى طردهم. على صعيد متصل، قال رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، في البرلمان إنّ بلاده مستعدّة لقبول لاجئين من أوكرانيا أسوة بأوروبا، متناسياً ما قام به جنوده عندما ألقوا لاجئين سوريين في البحر. في المقابل، اعتبرت وكالة أسوشييتد برس الأميركية أنّ نبرة الترحيب الحار من قادة الدول الغربية المجاورة لأوكرانيا باللاجئين الأوكرانيين، تعكس اختلافاتٍ صارخةً في المعاملة التي يجري تقديمها للهاربين من أزمات الشرق الأوسط، مؤكّدة أنّ لغة الترحيب تلك كانت مؤلمةً ومزعجةً للاجئين، السوريين خصوصا، مشيرة إلى تصريحات مستفزة سابقة للرئيس البلغاري رومين راديف: "ليس هؤلاء هم اللاجئين الذين اعتدنا عليهم"، وتابع: "الأوكرانيون أوروبيون أذكياء ومتعلمون".
ليس نجاح السوريين خارج أوطانهم طفرة غريبة، أو حالة نادرة تستوجب دراسة مستفيضة، وإنما ترجمة واقعية للفكر المتقدّم والحضارة المدهشة التي صدّروها
غدت القضيةُ السورية من أكثر الملفات العالمية الساخنة. يقلق بشأنها الجميع علناً، وتحت طاولة المفاوضات يحاربون من أجل إبقائها، استثماراً لآلام السوريين، الذين، على الرغم مما بدا من تمييز وعنصرية ضدهم، كانوا أقدر اللاجئين على التفاعل الإيجابي مع المجتمعات الجديدة، وأكثرهم قدرةً على الانفتاح والاندماج، عبر تعلّم اللغة والدراسة والدخول في سوق العمل. ليست هذه الخلاصة تقديراً ولا استنتاجاً، إنّما اعترافٌ رسمي من ألمانيا والسويد، اللتين تضمّان أكبر نسبةٍ من السوريين في أوروبا.
بالأرقام.. وفقاً لتقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لعام 2017، أسهم اللاجئون السوريون في ضخّ 800 مليون دولار في السوق المصري خلال السنوات 2011 – 2017. وأفادت الإحصائيات الصادرة عن الجامعة الأميركية في بيروت عام 2017 بأنّ اللاجئين السوريين يساهمون في الاقتصاد اللبناني بما يعادل 378 مليون دولار سنوياً كإيجارات سكن فقط. وفي الأردن، واستناداً لتحليلات الخبراء الماليين في 2018، ساهم السوريون في النمو الكلي للبلاد بنسبة تصل إلى 20%. وبالعودة إلى تركيا، أقرّ مركز أبحاث السياسات الاقتصادية نهاية 2018 أن السوريين أنشأوا ما يزيد عن عشرة آلاف شركة، متصدّرين بذلك قائمة المستثمرين الأجانب في تركيا... بطبيعة الحال، عينة اللاجئين السوريين، كغيرهم من الشعوب، ليست كلّها على قلبِ رجلٍ واحد. وعليه، ليس نجاح السوريين خارج أوطانهم طفرة غريبة، أو حالة نادرة تستوجب دراسة مستفيضة، وإنما ترجمة واقعية للفكر المتقدّم والحضارة المدهشة التي صدّروها إلى جميع أنحاء المعمورة في زمنٍ ما. وإن كان العالم اليوم يريد حلاً جذرياً لعودة السوريين إلى بلادهم، فالحلّ ليس بتوطينهم وترسيخ واقع الشتات، إنما الأوْلى بهم معالجة أصل المشكلة التي كانت سبباً في تشرّدهم وبؤسهم، وإعادة الاعتبار لأرضٍ خلت من أصحابها، وعاث بها الأغراب دماراً وفساداً.. بالتأكيد، عندما هزمتِ السوريين عبوديتهم التاريخية لنظامٍ قمعي، تحوّلت الآمال إلى أسلاك شائكة من المخاوف، تحوّط أرواحهم المنهكة أنّى حلّوا في هذا الكون الفسيح.