السودان .. ماذا بعد استقالة حمدوك؟
دخل المسار الانتقالي في السودان منعطفاً جديداً بعد استقالة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك. وتضع هذه الاستقالة المجلس العسكري في ورطة كبيرة وتُربك حساباته، في ظل تصاعد وتيرة الحراك الشعبي المناهض لسيطرة الجيش على مختلف مفاصل الدولة.
كشف حمدوك، في خطاب استقالته، الأسباب التي حالت دون نجاح المرحلة الانتقالية، وتتمثل بالأساس بما أسماه ''الشتات داخل القوى السياسية والصراعات العدمية بين مكونات الانتقال''، ما يعني تحميلَ المسؤولية، من جهة، للمجلس العسكري الذي لم ينخرط في شراكةٍ سياسيةٍ تحقق تطلعات الشعب السوداني في الاستقرار والتنمية والديموقراطية، ومن جهة أخرى للقوى السياسية المنقسمة التي أخفقت في إفراز قيادةٍ متوافق عليها، مُفسحةً المجال للجان المقاومة التي باتت تقود الحراك الشعبي.
تحوُّل لجان المقاومة إلى رقم أساسي في المشهد السوداني لا يضيق الخناق، فقط، على المجلس العسكري، بل يُنذر، أيضاً، بتفكيك ما بقي من نظام عمر البشير، الذي لم يكن الانقلاب عليه في 11 إبريل/ نيسان 2019، إلا مناورة مدروسة من العسكر للالتفاف على مطالب الحراك الذي انطلقت شرارته الأولى في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018. وطوال السنتين، اللتين قضاهما حمدوك رئيساً للحكومة الانتقالية، لم تتوقف محاولات المجلس العسكري للاستفراد بالقرار السياسي، سواء تعلق الأمر بالسياسة الداخلية أو السياسة الخارجية التي سعى لجعلها في خدمة التطلعات السلطوية لقادته، وفي مقدمتهم عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان حميدتي اللذين لعبا دوراً كبيراً في هندسة اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني.
كان العسكر يدركون أن نجاح المرحلة الانتقالية، بقدر ما يساعد على بناء تعاقد سياسي ومجتمعي جديد، ينطوي، كذلك، على مخاطر إقصائهم من المشهد السياسي، في ظل نجاح حكومة حمدوك في التوصل إلى اتفاقات سلام مع بعض الحركات المتمرّدة، بما يعنيه ذلك من تحسين الموقع التفاوضي للمكون المدني مع نهاية هذه المرحلة، خصوصاً بعد أن نجحت هذه الحكومة، نسبياً، في فك العزلة الدولية عن السودان برفع اسمه من قائمة الدول الداعمة للإرهاب وإعادة جدولة ديونه الخارجية. ومن ثمَّ، استغلوا مكامن الضعف في أدائها، ومن ذلك تغذية الخلافات داخل تحالف قوى الحرية والتغيير، وعرقلة حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها السودانيون، والاستقواء بالقوى الإقليمية المناهضة للديمقراطية، وذلك كله في مسعى لإجهاض تشكّل جبهة مدنية واسعة قادرة على التصدّي لمطامعهم في السلطة والثروة. وقد نجحوا في ذلك بتقليص القاعدة الاجتماعية والسياسية التي استند إليها حمدوك، إذ رأى كثيرون في عودته إلى رئاسة الحكومة الانتقالية، بموجب اتفاق 22 نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، قفزة في الفراغ وانتحاراً سياسياً وشرعنة للانقلاب الذي قاده الجيش في أكتوبر/ تشرين الأول.
وبالتوازي مع هذا الاتفاق، الذي لقي رفضاً شعبياً واسعاً، لم تكن قضايا إصلاحِ أجهزة الجيش والأمن والقضاء والإدارة، ووضع سياسة ناجعة للعدالة الانتقالية والإفلات من العقاب في مقدمة أولويات حكومة حمدوك، على غرار ما نجده في التجارب المقارنة للتحوّل الديموقراطي، هذا في وقت لم يتوقف العسكر عن تعزيز تحالفاتهم الإقليمية واستثمار دعم محور الثورة المضادّة في المنطقة، مستغلين إخفاق الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي في الجزائر ولبنان والعراق.
على الأغلب، ستكون لاستقالة عبد الله حمدوك تداعيات على المشهد السياسي السوداني، ففضلاً عن زيادة الضغوط الدولية على المكوّن العسكري من أجل دفعه إلى تقديم تنازلاتٍ حقيقيةٍ تنقذ المرحلة الانتقالية، وتُجنب منطقةَ القرن الأفريقي مزيداً من التوتر، سيفقد العسكر الغطاء المدني الذي كانوا يمرّرون تحته مخططاتهم، وسيجدون أنفسهم أمام شارعٍ أكثر إصراراً على المضي بثورته إلى النهاية، بما يفتح الباب على مصراعيه أمام إقامة حكومة مدنية وديموقراطية.