السلفي المتحوّر
السلفية أحد أمراض الأمم في أطوار تراجعها أو اغترابها. التعلق بالماضي، وقراءته بشكل مثالي، انتقائي بالضرورة، و"منهجة" هذه القراءة، بحيث يكتسب المثالي صفة العلمي، فيما يبدو الإنساني، البشري، النسبي، الزمني، محض ادّعاء أو افتراء على الحقيقة. تبدأ القصة من العجز عن تغيير الحاضر، أو التحقق فيه وبه، فيذهب السلفي إلى ماضٍ على مقاس الأزمة، ويعود محمّلا بكراهية الحاضر، والتوجّس منه، واتهامه، ووصمه، كي تظلّ المعادلة، المريحة، ماضيا عظيما وحاضرا رجيما. تتحوّل بوصلة القراءة الانتقائية، من تأليه التاريخ إلى شيطنة الحاضر. وفي الحالتين، يضطر العقل السلفي إلى الاختزال والتعميم، والحدّية، والتلفيق، وحين يمتدّ الخط على استقامته (بالأحرى اعوجاجه)، يظهر جيل غير قادر على احتمال واقعه فيتجاوز تشويهه، الذي سبقه إليه آخرون، إلى تفجيره والخلاص منه، ومن نفسه، تطلّعا إلى الخلاص النهائي.
ترتبط السلفية، هنا، بالعقل الديني وحده، أو بنموذج بائس من التديّن الشعبوي، إلا أن "فيروس" السلفية، في السياق العربي، قابل للتحوّر، ومعاودة الهجوم في صور مختلفة، وعلى أطراف أخرى من الدائرة، يشترك الجميع في العجز عن تغيير الواقع، كما يشتركون في الإحالة إلى "المثالي" سواء في الماضي (السلف المتخيّل) أو الحاضر (الغرب المتخيّل). وفي الحالتين، ينتج العقل العربي أوهامه ويغذّيها ثم يتغذّى عليها، وفق الآليات نفسها.
يمتلئ الفضاء العام بخطاباتٍ تبدو نقدية، وتأتي من بوابات العقلنة والعلمنة والاستنارة، فيما لا يستطيع أصحابها مجاوزة "محدّد السلفية"، وأدواته وآلياته. وإذا كان السؤال الأهم، طوال الوقت، هو "ما الواقع؟"، فإن مهمة هذه الخطابات، بصرف النظر عن نيات أصحابها، هي تغييب الواقع لصالح قراءة متخيلة، بدورها، تعزّز من القراءات الدينية السلفية، من حيث أرادت أن تخاصمها، وتثبتها من حيث أرادت أن تنفيها، أو تنفي عن نفسها تبنّيها، ثم يكون الاختيار بين تدمير الواقع أو تبريره. وفي الحالتين، لا يتوقف خط إنتاج القبح عن العمل.
شاركت، الأربعاء الماضي، مع الزميل الإعلامي محمد اليحيائي، في إدارة "تويتر سبيس" حول سؤال: هل الدولة العربية وليدة الاستعمار وامتداد له؟ وهي مناقشة أسبوعية، ساعة، في موضوع حلقة برنامج "قراءة ثانية" على التلفزيون العربي في اليوم نفسه. جاءت إحدى المداخلات لتعبّر عن رؤية "نقدية" من وجهة نظر صاحبتها، وهي صحفية يمنية بارزة، لتقطع بأن مشكلة الدولة العربية، هنا الآن، هي الاقتصاد، وأن مسألة الديمقراطية تحتاج إلى إعادة نظر، لأنه لا وجود لديمقراطية حقيقية، حتى في الغرب نفسه، فهي حرّيات زائفة، وموجّهة، ومخترقة.
يبدو توجيه النقد إلى الحضارة الغربية، على طريقة مدرسة نقد الاستشراق، مغريا، ومشروعا طبعا، كما أنه، في مجمله، يستند إلى حجج واقعية، فلا شيء مثالي، لا عند الغرب أو غيره، الحرّيات.. الديمقراطية.. حقوق الإنسان.. وغيرها، أفكارٌ، ومنجزاتٌ، بشريةٌ، يعتورها النقص، بالضرورة، وتحتاج إلى النقد والمراجعة وإعادة النظر وسد الثغرات وتصحيح الأخطاء، طوال الوقت، إلا أن الكاتبة، هنا، لا تحدّثنا عن صوابٍ يحتمل الخطأ، بل عن خطأ محض، لا صواب فيه، وشرّ محض، لا خير فيه، ليس ذلك فحسب، بل إن اختزال الديمقراطية الغربية في هوامش أخطائها، يستتبعه، آلياً، رفضٌ، بالجملة، لهذه الديمقراطية، ومنجزاتها، وتبرير، ضمني، ومجاني، للاستبداد العربي، بيت الداء، بوصفه ليس المشكلة، إنما الاقتصاد، من دون غيره.
تتغوّل هذه الخطابات على الواقع، بكل مفرداته، وتحيله إلى غابةٍ موحشة من القبح، في السياسة والدين والتاريخ والفن وحتى كرة القدم، جمال عبد الناصر مثل أنور السادات وحسني مبارك وعبد الفتاح السيسي، شيوخ الإصلاح الديني من محمد عبده إلى أحمد الطيب مثل المحافظين والسلفيين بل والدواعش، تجريب عبد الحليم حافظ هو ما يفعله ويجز، وأخطاء محمود الخطيب هي جرائم مرتضى منصور. يغيب المعيار، وقراءة التاريخ في سياقه، والمواقف وفق أحجامها وظروفها وملابساتها، والواقع وفق ممكناته وإكراهات، وتصبح "القيمة" مزايدة، والمزايدة "قيمة" وتكسير للأصنام والتابوهات، أيهما أخطر: تديين القبح أم تمدينه؟