السباحة على مقابر المهاجرين
بعد إصدار قانون إصلاح نظام التقاعد في فرنسا، وما نجم عنه من احتجاجاتٍ مطلبيةٍ عنيفة، وبعد اندلاع احتجاجاتٍ أكثر عنفًا إثر مقتل فتىً فرنسي من أصل جزائري على يد شرطي سير، ستخوض الحكومة الفرنسية، قبل عطلة الصيف، في خضم عراك برلماني، على الأقل، مع اليمين ومتطرّفيه، ومع اليسار ومتشدّديه أيضًا. وسيتمحور هذا الموعد الجديد مع المواجهات، حول مشروع قانونٍ تعتزم الحكومة طرحه على النواب للتصويت عليه، وهو يتعلّق بتنظيم مسألة الهجرة واللجوء الى الدولة الفرنسية. وذلك بالرغم من أن الدراسات الجدّية التي تجريها مراكز الأبحاث الفرنسية، والتي تعتمد أساسًا على استطلاعات رأي تشمل عيّنات واسعة وكبيرة التمثيل لمختلف شرائح الشعب الفرنسي، ما زالت تؤكّد أن قضية الهجرة ومسألة اللجوء لا تردان في أولويات المطالب الشعبية التي يُعبَّر عنها فرنسيًا. ففي الإجابة على سؤال "ما هي الرهانات الثلاثة الكبرى التي تشغلك أكثر من سواها على المستوى الشخصي؟"، كان مجموع من أشار إلى مسألة الهجرة لا يتعدى 18% من المستطلعة آراؤهم. مقابل هذا، كانت الإجابات تضع في مقدّمة أسباب قلق المواطن الفرنسي مسألة القدرة الشرائية المتراجعة، والتي تليها مسألة حماية البيئة والتغيّرات المناخية، ومن ثم مستقبل النظام الاجتماعي والصحي.
ومع ذلك كله، نحن نرى أن مسألة الهجرة ترد على لسان كل السياسيين ومن مختلف التيارات، وذلك هجومًا أو دفاعًا أو تزييفًا للحقائق العلمية والتقارير الموثوقة التي تُصدرها مراكز مرموقة، ومنها من يتبع للحكومة التي تنوي تشديد القوانين. وبالتالي، سيخال بعضهم أن نتائج الدراسات التي ترتبط بها ستكون ملائمة لأهدافها. وفي هذا الإطار، ذكرت دراسة أصدرها أخيرا مركز الدراسات الاستشرافية والمعلومات الدولية، وهو مركز بحثي تابع لمكتب رئيسة الحكومة، أن "المهاجرين ليسوا هم المسؤولون عن ارتفاع معدّلات المخالفات والجرائم في بلد الاستقبال"، أي في فرنسا.
اليسار الفرنسي المتراجع والمنقسم لا يتخلّى عن ملف الهجرة الجاذب انتخابياً
بدءًا من سنة 1986 ووصولاً إلى سنة 2019، أي خلال 33 سنة، عرفت فرنسا 21 قانونا ناظمًا للهجرة أو للجوء، أو لكليهما معًا. أي بمعدل قانون جديد كل سنة ونصف سنة. ويعدّ هذا معدّلاً مرتفعًا للغاية، وحيث لم تعرف مثيلاً له أيٌّ من الدول المتقدّمة. ويدلّ هذا على تخبّط تشريعي وسياسي في اختيار الأنسب للمجتمع المحلي بالتوافق مع قوانين الاتحاد الأوروبي الناظمة والملزمة، كما بالانسجام مع القيم الإنسانية والمفاهيم الحقوقية التي لطالما نادت بها الدول الحرّة المتقدّمة، وحيث تعتبر فرنسا نفسها من أبرز من حمل راياتها.
سيُطرح القانون الجديد الذي يُناقش بحماس للتصويت بعد أن تتمكّن رئيسة الحكومة إليزابيت بورن من التأكّد من نجاحها في تأمين أغلبية برلمانية كافية للعبور به في مجلس النواب. ولتحقيق هذه الأغلبية، تحاول إقناع حزب الجمهوريين، وهو نظريًا حزب اليمين التقليدي المعتدل. في المقابل، شهدت قيادات هذا الحزب خلال السنوات الأخيرة تطرّفًا متناميًا باتجاه اليمين، بحيث صار خطاب اليمين المعتدل، المرتبط بالهجرة وما تبعها من ملفّات، يُحاكي خطاب اليمين المتطرّف. وبالتالي، سيدخل الجميع معركة المزايدات بخصوص من هو الأكثر قسوةً في طريقة معالجة "الأزمة" المصطنعة لحجب الأنظار عن الأزمات الحقيقية المشار إليها أعلاه.
أما اليسار الفرنسي المتراجع والمنقسم، والذي ما زال يبحث عن هويةٍ واضحة، فهو أيضًا لا يتخلّى عن ملف الهجرة الجاذب انتخابيًا. يقارب بعضٌ من هذا اليسار الملفّ بطريقة كاريكاتورية مخفّفًا من أهميته، أو في أحيانٍ أخرى، من خلال اعتماد اللغة العلمية، والتي تصدر عن الحقل الاكاديمي، والتي تُشير، في مجملها، إلى أن تنظيم الهجرة مطلب واقعي بل وضروري، ولكن التهويل من آثارها والترهيب من أشكالها تبتعد كل البعد عن المنطق وعن العقلانية.
لا يمكن أن تشكّل الحدود والجدران مانعًا أمام من يخاطر بحياته لإنقاذ حياته
وفي عودة إلى لغة الأرقام، وهي التي تساعد العقلاء على الميل نحو الإقلال من صعوبة المسألة ومن أولوية الملف، تعتبر فرنسا من الدول الأوروبية المتخلفة في ما يتعلق باستقبال المهاجرين، حيث لا تأخذ حصتها منهم أوروبيًا، فقد ازداد عدد المهاجرين اليها بمعدل 36% منذ سنة 2000 مقابل ازدياد هذا العدد بمعدل 58% في مجمل البلدان الواقعة في غرب أوروبا بما فيها المملكة المتحدة. كما ذكرت منظمة التجارة والتنمية الأوروبية في تقرير حديث أن المهاجر لا يُكلّف الدولة الفرنسية أكثر مما يُنتج لها، ولربما حتى العكس. وتعتبر تكلفة المهاجرين واللاجئين من النقاط التي يعتمدها اليمينيون على أنواعهم للإشارة الى خطورة المسألة.
ستزداد في السنوات المقبلة الهجرات من الجنوب نحو الشمال بمعدّلات كبيرة. وأسباب هذا التصاعد أساسًا الأزمات المناخية والفقر والنزاعات المسلحة، والتي لا شيء يدلّ على إمكانية انحسارها في السنوات المقبلة. وبالتأكيد، لا يمكن أن تشكّل الحدود والجدران مانعًا أمام من يخاطر بحياته لإنقاذ حياته.
بعد أن يُنهي البرلمانيون الفرنسيون مناقشة قانون الهجرة الجديد، سيتوجّهون إلى شواطئ البحر المتوسط لقضاء عطلتهم، وسيسبحون على مقابر المهاجرين من الجنوب.