الساعات الأخيرة للديمقراطية
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.
في ظهيرة يوم الثلاثاء 11 سبتمبر/ أيلول 1973، حلّقت طائرات حربية من طراك هوكر هنتر فوق القصر الرئاسي في سانتياغو، عاصمة تشيلي، وراحت تلقي بحملها من القنابل فوق القصر بلا هوادة. قبل ذلك بساعة، تحدّث أليندي عبر الإذاعة، وقال إنه سيدفع حياته ثمنا لحماية المبادئ "العزيزة على أمتنا". وبعد فترة قصيرة، تحوّل القصر (لا مونيدا) إلى رماد، وأنهى أليندي حياته بيده، وانتهت معه ديمقراطية تشيلي التي عاشت نحو أربعين عاما، وجاء أوغوستو بينوشيه، الذي دعمته وكالة المخابرات المركزية في انقلابه، ليحكم تشيلي حكما مطلقا استمرّ 17 سنة، اضطرّ بعدها للتنازل عن رئاسة البلاد لباتريشيو أيلوين المنتخب ديمقراطيا.
وهكذا، انتهت خلال ساعات إحدى أكبر الديمقراطيات في أميركا اللاتينية من خلال انقلاب عسكري، سبقه وسيتلوه عدد كبير من الانقلابات المشابهة، حيث انتهت ثلاث من كل أربع ديمقراطيات من خلال انقلابات عسكرية. وتمثيلا فقط نذكر الأرجنتين والبرازيل وتركيا وغانا وباكستان وتايلاند وأورغواي. وفي بلادنا العربية انقلاب حسني الزعيم الذي وأد الديمقراطية السورية الوليدة في انقلابه في مارس/ آذار 1949، وانقلاب عبد الفتاح السيسي الذي أنهي حكم أول وآخر رئيس منتخب في تاريخ مصر، محمد مرسي.
لا يستطيع أحد أن يقول إنه فوجئ بانعطاف تشافيز نحو الدكتاتورية الشعبوية، فقد كان معروفا بأنه يشكّل تهديدا للديمقراطية
ولكن الانقلاب ليس السبيل الوحيد لإنهاء الديمقراطية. في الساعة 10:55 من صباح الإثنين 30 أكتوبر/ تشرين الأول 1922، وصل قطار قادم من ميلان إلى محطة روما تيرميني، وكان بين ركّابه رجلٌ سيغيّر التاريخ. نزل من القطار واتجه إلى فندق سافوي، فلبس بدلة سوداء وقميصا أسود وقبّعة سوداء، ثم اتجه إلى القصر الملكي، ليلبّي دعوة الملك إيمانويل الثالث له لتعيينه رئيسا للوزراء. إنه زعيم الحزب الفاشي، بينيتو موسوليني، الذي سيصبح بعد سنوات الحاكم المطلق لإيطاليا عقدين ونيّفا من السنوات، وسيموت بعدها إعداما، ولكن بعد أن يغيّر إلى الأبد وجه العالم.
كيف وصل موسوليني إلى هذه اللحظة؟ لم يكن صاحبَ أكبر كتلة سياسية في البرلمان، بل لم تكن كتلته البرلمانية تزيد عن 35 نائبا من أصل 535 (6.5%)، ولكن الانقسام الكبير بين القوى البرلمانية التقليدية والخوف من انتشار الاشتراكية والخشية من التهديد بالعنف الذي كان نحو ثلاثين ألفاً من "ذوي القمصان السوداء" يشكلونه في الشارع الإيطالي في تلك الفترة جعلت النخبة السياسية الإيطالية تعتقد أن موسوليني يمكن أن يكون حلا مؤقّتا، على أن موسوليني لم يكن حلّا ولم يكن بالتأكيد عابرا. بدلا من ذلك، دمّر إيطاليا والقارّة الأوروبية برمّتها.
ستُكرّر في القرن العشرين تجربةُ موسوليني مرارا، فبعد عقد من السنين سيعهد رئيس الجمهورية الألماني، بول لودفيغ فون هيندنبورغ، بمنصب المستشار (رئيس الوزراء) للنجم النازي الصاعد، أدولف هتلر. ثم على امتداد القرن سنرى مثل ذلك يحدث في البرازيل مع غيتوليو فارغاس، وفي البيرو مع ألبيرتو فوجيموري، ثمّ في فينزويلا مع هوغو تشافيز. والأخير بخاصّة حالة مدرسية جيدة.
لا يستطيع أحد أن يقول إنه فوجئ بانعطاف تشافيز نحو الدكتاتورية الشعبوية، فقد كان معروفا بأنه يشكّل تهديدا للديمقراطية. قبل فترة وجيزة من تسلّمه الحكم، قاد انقلابا فاشلا لتغيير الحكومة المنتخبة ديمقراطيا بالقوة، واعتقل بتهمة الخيانة. لكن هذا لم يمنعه من أن يكون شخصية عامة ذات شعبية. خصوصا عندما أيده الرئيس رافائيل كالديرا، في محاولةٍ شعبويةٍ لكسب مؤيديه، فأطلق سراحه وجعله بطلا ومنافسا سياسيا حقيقيا، فاتحا له الباب على مصراعيه للانقلاب من جديد، ولكن هذه المرّة عن طريق الانتخابات. وسرعان ما فاز بانتخابات عام 1998 بأغلبية ساحقة، وفكّك النظام الديمقراطي الذي أقامته فنزويلا، وقد قام بذلك كلّه بطرق مشروعة، وإنْ لم تكن صحيحة، من خلال حشر المحكمة العليا بالمتملقين، وإسكات وسائل الإعلام المستقلة، ونفي منافسيه أو سجنهم.
الولايات المتّحدة هي قائدة العالم الديمقراطي، أحببنا ذلك أم كرهناه، وضياع الديمقراطية فيها يعني بداية نهايتها في العالم بأكمله
يكاد الطريق في هذه الحالات جميعها يكون واحدا. في كتابهما السوداوي "كيف تموت الديمقراطيات"، يفتح العالمان السياسيان، ستيفن ليفيتسكي ودانييل زيبلات، أعيننا على ما يحدث بالفعل عندما يسقط نظام ديمقراطي: أنت لا تحتاج انقلابا، ولكنك تستطيع عن طريق الحتّ البطيء لأعمدة الديمقراطية أن تصل إلى مرحلة تنسفها من أساسها. ويكون ذلك من خلال تمرين موحّد: تمرّ البلاد بمصاعب اقتصادية، ويزداد السخط الشعبي، ويتراجع دعم الأحزاب الرئيسية في بلد ما، ويبدأ السياسيون الكبار يخشون على أنفسهم من التراجع الشعبي، فإذا تصادف في هذا الوقت بزوغ نجم شخص يمتلك جرأة عالية وكاريزما لافتة، فيأخذ باتهام الأحزاب الرئيسة بالفساد، ويشير صراحة أو مداورة إلى أن مصدر هذا الفساد يكمن في الأسس الديمقراطية للدولة، يشرع هذا الشخص بالاستحواذ على شعبيةٍ متعاظمةٍ بين الناس الأقلّ ثقافة ووعيا، فيشكّلون حوله قاعدة شعبية قوية ومتماسكة، تسير أنّى سارَ وتنعطف حيثما انعطف. فإذا برز من بين السياسيين شخصٌ يكسر صلته برفاقه، ويخرج على الأعراف الديمقراطية السائدة، فيضع يده بيد الشعبوي الوافد، فسيحصلان على السلطة بالانتخاب، قبل أن يطيحه رفيقه الجديد وينفرد بالسلطة. .. هذا ما فعله الملك إيمانويل الثالث في إيطاليا، والرئيس فون هيندنبورغ في ألمانيا، والرئيس كالديرا في فنزويلا. وهذا ما يحدث الآن في الولايات المتحدة.
لم يعدْ دونالد ترامب في السلطة في الولايات المتحدة، ولا أحسب أنه سيعود إليها، ولكن البذرة التي بذرها في طريقة الحكم عبر الكذب والبلطجة والخداع صارت اليوم عرفا مقبولا بين كثرة من الأميركيين. عندما رشّح ترامب نفسه في صيف 2015، لم يأخذه أحدٌ على محمل الجدّ، فهذا الرجل نصف الأمي الذي حصل على شهرته من التلاعب والتهرّب الضريبي والإفلاس المفبرك لا يمكن أن يكون رئيسا جادّا. ولكنه حين اكتسح قاعدة الحزب الجمهوري، على الرغم من تهتّكه وجهله، أو ربما بسببهما، سارع قادة الجمهوريين إلى احتوائه والتزلّف أمامه.
خلال السنة الأخيرة من رئاسة أوباما، توفّي بشكل مفاجئ القاضي المحافظ في المحكمة العليا، أنطونين سكاليا، في أوائل عام 2016. كان ما زال أمام الرئيس أوباما مدة عام تقريبا ليرشّح قاضيا بديلا عنه، وقد رشّح بالفعل ميريك غارلاند، الليبرالي الوسطي، ليحلّ محله. وأرسل الترشيح إلى مجلس الشيوخ، ليناقشه ويقرّر تثبيته أو رفضه. لكن مجلس الشيوخ فعل شيئًا لم يفعله أبدًا منذ أكثر من 150 عاما: لقد رفض حتى منح غارلاند جلسة استماع. ولم يكن الأمر متعلقا بترامب، فقد كان معظم أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين في هذه المرحلة منزعجين بشدة، إن لم يكن معادين صراحةً لاحتمال وجوده في البيت الأبيض. ولكنهم كانوا يعتقدون أن أي مرشّح جمهوري للمحكمة العليا سيكون أفضل من أي مرشّح ديمقراطي، وأي ثمن لتحقيق ذلك سيكون قليلا. إنها سياسة الأرض المحروقة.
البذرة التي بذرها ترامب في طريقة الحكم عبر الكذب والبلطجة والخداع صارت اليوم عرفاً مقبولاً بين كثرة من الأميركيين
كان هذا مثالا بارزا على ما يسميه ليفيتسكي وزيبلات تآكل المعايير، الذي يعتبرانه أكبر تهديد للديمقراطية المعاصرة. الأعراف هي القواعد والاتفاقيات غير المعلنة التي تربط الديمقراطية معا، وكثير منها يعتمد على فكرة أن ما هو جيد لك على المدى القصير قد لا يفيدك على المدى الطويل، لأنك لن تكون في السلطة إلى الأبد. ما فعله الجمهوريون في مجلس الشيوخ برفض مناقشة الترشيح، لم يكن مخالفة للقانون، ولكنه مخالفة للأعراف. لم يكن ذلك انقلابا على طريقة بينوشيه، بل كان رفضا للعب وفقًا لقواعد اللعبة.
حين وصل ترامب إلى البيت الأبيض عيّن القاضي نيل غورسك، ثم تقاعد القاضي المحافظ المعتدل، أنتوني كينيدي، فعين مكانه قاضيا مغرقا في المحافظة هو بريت كافاناه، وأخيرا ماتت القاضية الليبرالية المعروفة بمناصرة المرأة والتحرّر، روث بادر غينسبورغ، فعين مكانها إيمي كوني بريت، المعادية لحقوق النساء والكاثوليكية المتزمتة. بذلك سيطر المحافظون على المحكمة العليا التي تصبّ لديها كل قضايا الخلاف. وتابع الجمهوريون معركتهم من خلال تشريع قوانين انتخابية في ولايات أميركية عديدة، تحرم السود والفقراء من حقهم العادل في التصويت، ما سيجعل وصول نواب ديمقراطيين مستحيلا تقريبا في كل تلك الولايات. وبالتالي، قد تكون الإدارة الحالية آخر إدارة ديمقراطية في تاريخ الولايات المتحدة. والحال أن نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل سيبدأ بجلب رياح التغيير، والأرجح أن يستولي الجمهوريون على مجلسي النوّاب والشيوخ، ما سيجعل الرئيس جو بايدن عمليا "بطّة عرجاء" كما يقول الأميركيون. وفي 2024، وعلى الرغم من أن ترامب لن يعود بتقديري إلى البيت الأبيض، فإن رجلا أبيض متزمتا ومعاديا للنساء والملونين والمسلمين واليهود سيكون مكانه، ولكنه إذّاك سيتمتع بوضع قانوني مريح جدا، فالقوانين الانتخابية تسانده والمحكمة العليا تؤازره والمليشيات المتطرّفة ستكون في صفّه.
المشكلة أن الولايات المتّحدة هي قائدة العالم الديمقراطي، أحببنا ذلك أم كرهناه، وضياع الديمقراطية فيها يعني بداية نهايتها في العالم بأكمله. وستكون تلك نهاية مرحلة تاريخية وبداية أخرى، جلّ ما نخشاه أن تكون تطبيقا لرواية أورويل الشهيرة "1984".
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.