السؤال النهضوي العربي وعلاقته بالفلسفة
يقول يوجين يونسكو "ليست الإجابة ما يُنير الطريق، وإنما السؤال".
ما زالت إشكالية النهج العربي هي في التوصلِ إلى صياغة السؤال الصحيح، فعندها، حتى لو لم نصل إلى أجوبة نكون قد خطينا خطوة. وفتحُ باب الاحتمالات هو الخطوةُ الركيزة لإنتاج الفكر، فالعِبرة ليست في الإجابات، فكما يقول بيكاسو "أجهزة الكمبيوتر عديمة الفائدة، فهي لا تقدّم لك سوى الإجابات".
مشكلتنا هي في السؤال الذي يفتحُ آفاق الاحتمالات للحصول على أجوبةٍ غنية، فكما قال محمد عابد الجابري: "البحث في طبيعة السؤال النهضوي هو البحث في طبيعة الجواب الذي يحرك السؤال"، فبحسب الجابري "السؤال النهضوي، إذ يُنَظِر للنهضة ويرسم الطريقَ الذي يجب أن تسيرَ فيه، يجعل منه سؤالاً- جواباً، بمعنى أنَ الرغبة في الإدلاء بالجواب هي التي تدفع لطرح السؤال".
وانطلاقاً من هذه الفكرة، ومن وصف الجابري السؤال النهضوي أنه "ينشد التغيير ويشرع له، يعكس اتجاه التطور ويستعجل نتائجه، يُبشّر بالنهضة وكأنها متحققة أو على وشك التحقق"، لنتخيل مثلاً الأجوبة التي يمكن أن نحصل عليها من السؤال المطروح في مقالٍ لكاتبةٍ مرموقة وفي موقعٍ إلكتروني: "هل تستطيع أن تفكر؟" في تساؤلٍ عن المرأة، وهو من باحثة في قضايا المرأة والفلسفة! ما الأجوبة التي يمكن أن نتوقعها من سؤالٍ كهذا سوى دوامة ندخل فيها لمحاولة إثبات مُثبَت، لماذا يُسأَل في البديهيات! بينما الأحق طرح سؤالٍ يناقش أُفَق طبيعة المرأة وتفكيرها، أين يمكن أن يَصل، على مبدأ "اطرح أسئلة جريئة، واطلب السعر الذي تستحقه بالفعل".
من الممكن أن نرى فيلسوفاً يفكر بمنطق رجل الدين، أي بالمحرّمات والحدود، والعكس، فالتفكيرُ هو الذي يحدّد وهو القادر على الخَلق
لا تكفي القواعد الذهبية التي طرحها إيان كوبر للسؤال، كأن تكون صريحاً، وأن تَسأل بحرية، فليست مهمة السؤال الصحيح استقصاء المعلومات والأجوبة فقط، بل يجب أن يأخذ في الاعتبار المُراد معرفته، في ظل علاقاته وفي ظل محيطه الذي يصعُب فصله عنه، وكذلك الظروف الموضوعية والحالية، ليُكمِل مهمته المركزية بأن يُحيلنا إلى صورةٍ لا تمنحنا الأجوبة فقط، بل كذلك مزيداً من الأسئلة، وهذا بالطبع يأخذنا إلى الفلسفة. وهي صاحبةُ المسؤولية عن السؤال، عن الأشياء التي لا تطفو على السطح، تماماً كمهمّة اللاوعي، فكلاهما أساسُ الأشياء الدفينة، الأشياء الصعبة، المخاوف التي يصعب مواجهتها، فاللاوعي يختصُ بكل تفاصيل الشخصية، والفلسفة تختصُ بكل تفاصيل الحياة، ليكونا هما القادِرَين الوحيدَين على تقديم تلك الصورة التي هي لُب السؤال ومهمته.
من المُجحف للفلسفة، خصوصا في واقعنا الحالي، أن تبقى قابعة في الأفق، فهناك مهمة على الفلاسفة أن يُعلموا ويرسخوا عند الناس التفكيرَ بمنطقٍ فلسفي. وهذا المنطق الذي لا حدود له أراه أساس مقولة إن الفلسفة هي أم العلوم، وهو المسؤول عن طرح السؤال الصحيح، فليست مهمة الفيلسوف تقديمَ أجوبةٍ، بقدر ما هي طرح السؤال الصحيح، وهنا ما زالت الإشكالية.
التفكير بمنطقٍ فلسفي غير مُحَددٍ بشخصِ فيلسوفٍ أو بشهادة، فمن الممكن أن نرى فيلسوفاً يفكر بمنطق رجل الدين، أي بالمحرّمات والحدود، والعكس، فالتفكيرُ هو الذي يحدّد وهو القادر على الخَلق. أمَا المفكر فهو الشخص الذي يناقش في قضايا معرفية ومفاهيمَ عامة بمنطقٍ فلسفي، فيكون قادراً على إنتاج الأفكار ووضع تعريفاتٍ جديدة لمفاهيمَ قديمة.
نحتاج إلى تعميم الفكر الفلسفي على جميع مناحي الحياة والعلوم، وتجاوز الإشكالية التي قلَما تغيبُ عن النقاشات في وقتنا الحالي. .. هل الفلسفة علمية؟ لماذا يجب أن تكون، هل هذا يعطيها مستوىً رائداً؟
ما زال النقدُ سيد الموقف في الكتابات، ورغم أهميته، لكن المشكلة أنَ لا خلق هناك في الأساس، ليعقبه النقد
لا يمكن للفلسفة أن تكون عِلمية، بل هي فوق عِلمية، كالمبادئ الفوق دستورية تماماً، لأنها، وبالاتحاد مع التجربة، يُفضيان إلى العِلم، فلا عِلم بدون تجربة، أي أنَ الآفاق للعلم تبدأ من خلال الفلسفة، ولو تَحدّد العلماء بآفاقٍ معينة، لما خالف اكتشاف منح عليه صاحباه العالمان جائزة نوبل في الفيزياء نظرية أينشتاين فقط منذ بضعة أشهر، بعد أن اعتاش عليها العالم أكثر من مائة عام، من دون التفكير أن يجانبها الخطأ ولو قليلاً، هذا الأفق الجديد هو الفلسفة، هو بقاء الاحتمالات مفتوحاً ليكون العالَم دائماً مُتَجدّداً وغنياً.
ما زال النقدُ سيد الموقف في الكتابات، ورغم أهميته، لكن المشكلة أنَ لا خلق هناك في الأساس، ليعقبه النقد، فالنقد على المُنتَج الذي لم يُخلَق بعد، فما زلنا في حالة استجرارٍ للفائت الذي لا يمتّ بصلةٍ للواقع، تدورُ في محاولات إثباتٍ لبديهيات، كإثباتِ قدرات المرأة، أو إثبات وجود للمرأة ودور لها في ميدان الفلسفة، أو إثباتُ أنَ الفلسفة العربية، بحد ذاتها، كانت موجودة، وهو دوامة إثبات دور العرب القديم في الحضارة العالمية، والتغنّي بالقرون الوسطى، بينما نحن ها هنا الآن عاجزون، فأكثر ما نحتاجُ إليه إنتاجٌ يلائم هذه الفترة، بصراعاتها وتحولاتها الثقافية والمعرفية، التي تقريباً لم تشهدها دولُ شرقنا من قبل، ولم تستطع الحركة المعرفية مواكبتها.
يَعتبر الجابري أنَ ليس هناك طريقة لنزع الطابع الإشكالي عن المشكلات إلاَ بتحليلها تحليلاً عقلانيا نقدياً، وتلك خطوة أولى على طريق تجاوزها، لكن استمرار اجترار إشكاليات الفكر والعقل العربي، كما طرحها الجابري، مُشكلة بحد ذاتها، خصوصا أننا، نحن العرب، خسرنا رفاهية التحليل والنقد، ونزع الطابع الإشكالي عن قضايا الفكر العربي المعاصر، ما لا يتطلب سوى البدءُ بإيجاد صورة جديدة لهذا الواقع، تخصّ الشخص العربي، وذلك بناءً على الوقت الراهن والعمل وفقها وعلى أساسها، بعد إنجاز القطيعة التامة مع الماضي. وفي هذا أيضاً تجاوزٌ لإشكالية المعاصرة والأصالة التي تنحصر في الاختيار بين النموذج الغربي والتراث، فالاثنان عاجزَان عن تمثيل الشخص العربي.
نحتاج إلى أكباش فداء في جميع المجالات، تنتج صوراً يسير عليها الباقون، فتكون هذه الصورة نواة الحاضر
التوفيق بين الفكرة والواقع من الأفكار المهمة التي طرحها الجابري، فهنا معضلتنا، لسنا بحاجة إلى إعادة ابتكار العقل العربي، بل نحن بحاجةٍ إلى إعادة توجيه هذا العقل، ليخرج من حالة التنظير والنقد ويدخل في حالة الفعل، أن يُعدَمَ العقل المُستقيل ونشهد ولادة العقل الخلاق، والخَلق هو في الفعل، حتى الكتابة أن تتحوّل إلى فعل، وذلك بأخذها الواقع بعين الاعتبار في نظرةٍ استشرافية، وبذلك يمكن أن نصل إلى سياسةٍ فلسفية، تُعطينا السياسة النظرة الواقعية لتفتح الفلسفة أمامها باب الاحتمالات والمجالات.
الفلسفة هي الخيول التي تقود عجلة العلم، ولا يمكن أن تكون علمية، فهي انعكاس الشمس على الأرض الذي يقود إلى الاتجاه الصحيح، وإن كان هناك فشلٌ في العِلم فبالتأكيد يعني أنَ لا فلسفة تُنير لذلك الاتجاه، فالفلسفة هي الفكر الذي يتوصل من خلال التجربة إلى العلم.
نحتاج إلى أكباش فداء في جميع المجالات، تنتج صوراً يسير عليها الباقون، فتكون هذه الصورة نواة الحاضر الذي يجب دحرجته مع عجلة المستقبل، بعيداً عن محاولات الإصلاح والتحليل والنقد، فذلك سوف يُبقينا في حالة اجترارٍ لا أمل في الخروج منها.