"الربيع العربي" .. عشر سنوات وماذا بعد؟
كيف نتذكّر "الربيع العربي" بعد مرور عشر سنوات على اندلاع ثوراته؟ الأكيد أن الصورة اليوم سوداوية، لأن أول ما نستحضره هو بشاعة الحروب الأهلية المروّعة في سورية وليبيا واليمن التي خلفت مئات آلاف من الأرواح، ودمرت مدنًا بكاملها، ودفعت ملايين اللاجئين إلى التشرّد والغربة. وما نشاهده على أرض الواقع هو نجاح الانقلاب العسكري في مصر، واستمرار الحروب الإقليمية بالوكالة، وتحوّل المنطقة إلى رقعة شطرنج لتسوية الحسابات الجيوسياسية للقوى العظمى، وتفوّق الثورات المضادّة، وعودة موجة القمع الذي فرضته الأنظمة الناجية لإسكات الأصوات المعارضة لاستبدادها وفسادها.
لكن، هذا لا يمنع من أن ننظر إلى تلك الانتفاضات الشعبية التي عرفتها أكثر من 20 دولة عربية أنها حدث تاريخي شكّل، بإبداعه وزخمه، قيمة مضافة في مسار الثورات الشعبية للبشرية، حرّكَتها مطالب الناس من أجل الكرامة والحرية، وسخطهم ضد أنظمةٍ فاسدةٍ تستشري فيها المحسوبية، وتنعدم فيها ثقافة المساءلة، بالإضافة إلى ظروفٍ اجتماعيةٍ قاسيةٍ وحقوق أساسية مقيدة أو غائبة. وعلى الرغم من أنها لم تغير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي دفع الناس إلى النزول إلى الشوارع، إلا أن هذا ليس دليلا ضدها بقدر ما هو حجّة على استمرارها في الزمن، طالما ظل الواقع نفسه على ما هو عليه.
لقد تحوّل الربيع العربي إلى شتاء طويل وقاس، تاركًا وراءه إرثًا معقدًا وحروبًا أهلية وأحلامًا محطّمة، لكن هزات تلك الثورات ما زال لها تأثير عميق في حياتنا اليوم ومستقبلا. يكفي أن نتذكّر أن آخر موجاته هي التي أطاحت، قبل سنة فقط، عمر البشير بعد 29 عامًا من الحكم الديكتاتوري في السودان، وعبد العزيز بوتفليقة بعد 20 عامًا من الحكم "المافيوزي" في الجزائر، وأخرجت الآلاف للاحتجاج في شوارع بيروت والعراق، عام 2019، وقبل ذلك في منطقة الريف في شمال المغرب عام 2016.
نجح النظام العربي القديم في إعادة بناء كل آليات تحكمه القديمة وتقويتها، وهي المتمثلة في الاستبداد والفساد والقمع وبولسة المجتمع
وعلى مدى عشر سنوات الماضية، تعمقت كل أسباب الانفجار الاجتماعي في أغلب الدول العربية، بما في ذلك تونس، البلد الوحيد الذي نجح في بناء مؤسساتٍ سياسيةٍ ديمقراطية، وليس غريبا أن يشهد هذا البلد عودة الاحتجاجات بقوة إلى شوارع مدنه، لأنه الوحيد في المنطقة العربية الذي يمكن أن يتظاهر فيه الناس بدون خوف من بطش السلطة الحاكمة. وإذا لم تخرج المظاهرات في دول أخرى، فليس لأن وضع شعوبها أحسن من وضع الشعب التونسي، فقط لأن أنظمتها لا تسمح لها بالتعبير عن مطالبها بأمان. لقد نجح النظام العربي القديم في إعادة بناء كل آليات تحكمه القديمة وتقويتها، وهي المتمثلة في الاستبداد والفساد والقمع وبولسة المجتمع، فعادت مصر إلى ديكتاتورية العسكر، وستلتحق بها قريبا كل من الجزائر والسودان، فيما يستمر نظام بشار الأسد المجرم جاثما على خراب ما تبقى من سورية وكاتما على أنفاس من بقي فيها. أما الدول العربية البوليسية فقد شدّدت قبضتها أكثر على مواطنيها، فيما تتفاقم في كل مكان المشكلات الهيكلية التي أدّت إلى انتفاضة الشعوب قبل عشر سنوات من بطالة وفقر وتهميش وعدم مساواة وظلم وسوء خدمات، فالأسباب التي دفعت الناس إلى النزول الشوارع عام 2011 ما زالت قائمة، بل أكثر من ذلك لم يعد الناس يثقون في وجود إرادةٍ لدى أنظمتهم للإصلاح الذي ظل متعثرا، على الرغم من مرور عشر سنوات من الوعود الكاذبة.
في أوروبا، استمرت الفوضى وعدم الاستقرار بعد الثورة الفرنسية عام 1789 عشر سنوات دامية، انتهت بانقلاب نابليون بونابرت عام 1799. وبعد مرور نصف قرن من الحروب والغزوات، عرفت أوروبا موجة جديدة من الثورات الديمقراطية، عمّت معظم دولها ما بين 1848 و1849. ومع ذلك، استغرق الوقت مائة سنة أخرى، شهدت فترات الاستعمار بكل مآسيها وحربين عالميتين تسببتا في وفاة أكثر من مائة مليون شخص، قبل أن تصل هذه الدول إلى شكل الديمقراطيات القائمة فيها اليوم.
التعويل على الغرب الديمقراطي لتحقيق التغيير كان وهما كبيرا أسقطته تجارب الانتفاضات العربية
يُقال إن التاريخ لا يعيد نفسه، وأكثر من ذلك أحداثه ليست خطّية. ومع ذلك، لا تخلو المنطقة العربية من الأمل، على الرغم من كل الفوضى والمآسي التي تعرفها أكثر من دولة عربية اليوم. وخيط الأمل هو الدروس التي علّمتها لنا السنوات العشر الماضية، فبقدر ما أثبتت التجربة أن التغيير الثوري لا يؤدّي حتما إلى التقدّم والتحرّر والعدالة الاجتماعية، أكد الواقع أن الأنظمة الفاسدة غير قادرةٍ على إصلاح ذاتها بذاتها، وأسطورة الإصلاح المتدرّج والإصلاح من الداخل ما هي سوى وسائل لتسويغ استمرار الفساد وتجذره داخل بنيات مجتمعية متهالكة. أما الدرس الثاني الذي تعلمته الشعوب العربية هو اكتشافها أن التعويل على الغرب الديمقراطي لتحقيق التغيير كان وهما كبيرا أسقطته تجارب الانتفاضات العربية. والمثل الأخير كان تعامله مع انتفاضة الشعب الجزائري، فالغرب يدرك أن استمراره في دعم أنظمة استبدادية أقلّ كلفة بالنسبة إليه من التعامل مع تغييراتٍ لا يعرف ما قد تحمله من مفاجآت غير سارة.
أسقطت موجات الربيع العربي الأولى جيلا من الطغاة العرب، ولحظة ما أسقطت معهم كذلك جدار الخوف. واليوم عاد الخوف، لكنه هذه المرة أصبح معمّما يسكن المواطن والحاكم على حد سواء، لأن الأخير يدرك أن ما يمنع الناس من الخروج للتظاهر هو الخوف من بطش أجهزته، وهذا الخوفُ المتبادل لا يمكن أن يبني استقرار دولةٍ أو يضمن استمرار تنمية. وهذا درسٌ آخر من تجربة السنوات العشر الماضية.
وأخيرا، الربيع العربي لم يفشل، بل تكالبت عليه عدة عوامل داخلية وخارجية لإفشاله، وحتى في الدول التي دفعت شعوبها الثمن غاليا مثل سورية واليمن وليبيا، فهي تعتبر الأكثر إصرارا على مواصلة الطريق، لأنها فقدت الكثير إلى درجة أنه لم يعد لديها من خيار سوى الاستمرار. أما في باقي الدول العربية، ما زال احتياطي الغضب في مكانه يتفاعل في جوف المجتمع، إن لم يتعاظم فهو حتما لم ينقص، وساعة انفجاره ستفاجئنا ذات يوم، كما حدث قبل عشر سنوات. وكلفة الاستمرار في لجم هذا الغضب سترتفع فاتورتها مستقبلا، لأن حجم الانفجار سيكون عظيما، والجيل القادم الذي سيقوده يتمتع بذكاء حاد وعقلية حرّة وإرادة قوية يصعب قمعه أو إعادة بيعه الوهم نفسه من جديد.