الرئيس المنتخب وحيداً في قصر قرطاج
يكشف التأمل في عمق الأزمة القائمة في تونس اليوم بين الرئيس التونسي، قيس سعيّد، ورئيس الحكومة، هشام المشيشي، أن الأزمة الحالية ليست إلا نتاج أزمات متراكبة ومتداخلة ومحجوبة تحت سطح الأزمة الظاهرة اليوم. يعود جذر الأزمة القائمة (وكل أزمة أخرى) في تونس اليوم إلى المسألة الاقتصادية الاجتماعية التي لم تجد حلولا جذرية أو حتى مقبولة لها في تونس الجديدة، ما يجعل قطار الانتقال الديمقراطي يسير على قدم واحدة، فيما قدمه الثانية لا تتحرك من مكانها. تشكل القدم الأولى المتحرّكة الإنجاز الكبير الذي حققه التونسيون، بالانتقال من زمن الاستبداد إلى زمن الديمقراطية عبر خطوات حقيقية، لا يمكن لأحد نكرانها، تمثلت في حرية الرأي والإعلام والأحزاب والانتخابات وتداول السلطة، والأخير تجسّد عمليا في تداول مؤسستي الرئاسة ومجلس الوزراء، وحل جميع الخلافات عبر المؤسسات الدستورية والحوار (رغم تعثر الحوار أخيرا)، وأحيانا الشارع الذي لم تتوقف احتجاجاته، وهذا متوقع وصحّي، إذ يجب أن يبقى الشارع حاضرا بشكل دائم، طالما أنه يحتج سلميا، وفي إطار الشرعية الديمقراطية والدستورية. أما القدم الثانية، فلا تزال تراوح مكانها وتعاني من عجز واضح، ونعني بها شحّ رغيف الخبز وندرة فرص العمل وتأمين شروط العيش الكريم (تعليم، تأمين صحي..). وهذا ما يجعل الانتقال الديمقراطي في تونس ناقصا، إذ تؤدي المشكلات العالقة دور كوابح تعيق التقدم بما يضغط على القدم الأولى (المسار السياسي)، ويحدّ من تقدّمها، وبما شكّل مع الزمن أزمة مستدامة، زادتها ظروف كورونا تعقيدا ورسوخا، وبحيث أصبحت الأزمة إياها موّلدة أزمات أخرى: الإرهاب، الاحتجاج الدائم، الاضطرار لاستخدام القمع أحيانا، انحطاط السياسة، الشعبوية التي يجسّدها قيس سعيد، وهذه محور المقال.
منذ وصول قيس سعيّد إلى قصر قرطاج لم يكن يفعل إلا تصويب المسدس على قدميه، وعلى قدمي العملية السياسية في تونس
في حقيقة الأمر، وجود الرئيس قيس سعيد في قصر قرطاج هو نتاج هذه الأزمة، فالرجل لم يصل إلى الرئاسة لأنه مرشح أحد الأحزاب، أو ممثل لقوة سياسية لها وزنها في الشارع، أو حتى لأنه صاحب مشروع تغييري واضح ومحدّد الملامح وقابل للحياة. لقد جاء في لحظة، تكاثفت واجتمعت بين طياتها عدة أمور، منها: وصول يأس الشارع إلى درجات غير مسبوقة في اليأس من انعكاس التغيير السياسي إيجابا على لقمة عيشهم، انحطاط الأحزاب السياسية وانشغالها بالصراع على السلطة، من دون أن يكون لدى أي منها حل واقعي للمسألة الاقتصادية والاجتماعية مع علو كعب الصراعات الفكرية (علمانية/ إسلامية) والسياسية (المحاور الإقليمية) على قضايا الناس الآنية والمهمة، ارتباك في مسألة المحاسبة والعدالة لأنصار النظام القديم والفاسدين، عدم قدرة على المضي في مكافحة الفساد إلى أبعاد جذرية تفتح أملا للتونسيين..
هنا وسط هذا اليأس، تقدّم قيس سعيد، بخطاباته التي تصوّب سهامها على الأحزاب السياسية، ونظافة يده عن التلوّث بالفساد، والحديث بلغةٍ تستثير عواطف الناس، فحاكى غضب شرائح كثيرة يئست من إمكانية إحداث أي تغيير على يد النخبة الحاكمة لتونس بعد الثورة، من دون أن تنتبه إلى أن الرئيس الجديد لا يحمل أي مشروع تغيير حقيقي بين يديه أصلا، فكان تصويتها له عقابيا للأحزاب، أكثر من كونه في العمق تصويتاً له. تصويت يحمل بين طياته أملا لا واقعيا بإمكانية تحقق "السحر/ المعجزة" على يده، من دون أن يدركوا أن لا مكان للمعجزات في السياسة. وهذا ما حصل، فما إن حط الرئيس في قصر قرطاج، حتى تبيّن للجميع أنّ قدرته على تحقيق ما وعد به شبه مستحيلة، لأنه منذ ترشيح نفسه للرئاسة لم يكن يفعل إلا تصويب المسدس على قدميه، وعلى قدمي العملية السياسية في تونس.
تنتقل تونس اليوم من تحول المسألة الاقتصادية الاجتماعية من مسألة قابلة للحل إلى مسألة مستعصية
إذ، على الرغم من أنه لا شك (أو هكذا يظهر على الأقل) في نبل نيات الرئيس، وسعيه، وفق مفهومه وفكره، إلى أن يحقق للشعب التونسي ما وعد به، إلا أنه لا يملك من الأدوات أي شيء لتحقيق ذلك، فلا حزب يدعمه بشكل واضح، كما أن قوى الدولة ومؤسساتها ليست بين يديه، وليس لدى الجماهير التي انتخبته قوة فاعلة ومنظمة، وهذا لا يمكن أن يحصل ما دام لا يقوم إلا برجم وشيطنة العملية السياسية التي أوصلته أساسا إلى سدة الرئاسة! فكيف يحقق التغيير الذي يعد به إذن؟ حين يقول، مرارا وتكرارا، إنه لا يثق بالأحزاب، وأنه ضدها أو غير هذا من الكلام الشعبوي، يتجاهل أن اللعبة السياسية والديمقراطية لا تكون أساسا من دون الأحزاب التي تقدّم مرشحيها للبرلمان، لتبدأ الممارسة الواقعية للسياسة في أروقة البرلمان بين السلطة التنفيذية والمعارضة التي قد تصبح حاكمة في الانتخابات المقبلة. مشكلة قيس سعيد أنه يحكم باسم الديمقراطية ويطالب بها، في حين أنه لا يفعل إلا التصويب لتعرية جذورها الهشة، إلى أن وصل إلى لحظةٍ لم يعد يثق فيها بأحد ولا أحد يثق به (إذ كيف تثق بمن يقول علنا أنه ضد وجودك؟). حتى الذين يناصرونه في هذه المعركة أو تلك، فإن اصطفافهم إلى جانبه هو اصطفاف الضرورة، كما كان انتخاب الشارع له هو انتخاب الضرورة الكيدية واليأس من الأحزاب.
وبعيدا عن مسألة قيس سعيد، تنتقل تونس اليوم من تحول المسألة الاقتصادية الاجتماعية من مسألة قابلة للحل إلى مسألة مستعصية، وهنا الخطر الأكبر، لأن هذا، وفي ظل سعي المحيط الإقليمي إلى إحباط التجربة التونسية وتقاعس الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي عن تقديم الدعم الاقتصادي لرفد التجربة الديمقراطية وإنجاحها، سيؤدي بالتدريج إلى "كفر" الناس بالديمقراطية العاجزة عن إطعامهم وتأمين الكرامة لهم ولعوائلهم، بما يفسح المجال لظهور الشعبويات والراديكاليات التي لا تعمل إلا على تعميق الأزمة التي يشكّل وصول قيس سعيد إلى سدة الرئاسة نتيجة لها، وهو لا يفعل بممارسته (وإن افترضنا حسن نية) إلا تقويض أركانها، لأن إفراغ الساحة من أحزابها من دون تحفيز ولادة بدائل سياسية أو تنظيمات جديدة أو أحزاب جديدة، لا يعني إلا توسيع الفراغ الذي "قد" يمهّد للمجهول الذي نأمل ألا تقترب منه تونس أبدا. ولكن الآمال وحدها لا تكفي.