الرئيس الصامت محمود عبّاس

08 فبراير 2024
+ الخط -

رغم كل التعتيم والتكتم على موقف الرئيس محمود عبّاس تجاه العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة ، إلا أن جميع ما ظهر من دلائل ومن تصريحات، ملتبسة حينا وصريحة أحياناً، يدل على أن موقف الرئيس من المقاومة لا يزال هو نفسه، ولم يتغيّر قيد أنملة منذ انتخابات عام 2006، وأن أول وأكثر ما يشغل باله، "سلاح شرعي واحد"، أي تجريد حركة حماس من سلاحها، رغم إنجاز 7 أكتوبر وما تلاه بفضل هذا السلاح.

لقد ألحق سلاح المقاومة الفلسطينية بالعدو الصهيوني هزيمة هي الأكبر منذ تأسيس كيانه الغاصب، ودفع القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث في العالم كله، حتى إنه غطّى على حرب أوكرانيا التي كانت شغل أوروبا والولايات المتحدة الشاغل، ودفع القضية الفلسطينية إلى صدارة نشرات الأخبار الدولية في كل وسائل الإعلام. وأنطقت الأمين العام للأمم المتحدة بالحق الواضح، ولو جزئياً، ما أخرج العدو عن طوْره، مطالباً إياه بالاستقالة. وفتحت هذه المقاومة الآفاق واسعة لتحرير الأسرى الفلسطينيين الأبطال، ومنهم من قضى 40 عاماً في المعتقل. كذلك ألحقت بالعدو خسائر إقتصادية وبشرية ومعنوية وسياسية ودبلوماسية وعسكرية لم يكن أحدٌ يحلم بها، ولا حتى العدو نفسه، ووحدت الشعب الفلسطيني المنقسمة قياداته خلف فكرة المقاومة المسلحة كما لم يكن موحّداً منذ عشرات السنين. وزادت من التناقضات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي، وزادت في حدّة التناقضات داخل الطبقة السياسية الإسرائيلية، بل حتى داخل الائتلاف الحاكم، وحتى داخل مجلس الوزراء المصغر.

ألم يكن الأجدر أن يخرج الرئيس عبّاس عن صمته وأن يدعم هذه المقاومة باللسان، طالما أن دعمها باليد غير ممكن لاعتبارات دبلوماسية

وبفضل المقاومة، وبسبب ما قام به العدو من جرائم، يمثُل الكيان الصهيوني للمرّة الأولى متّهماً بالإجرام أمام محكمة العدل الدولية. ولم تعد الشكوى تقتصر على دولة واحدة، بل تتسابق دول ديمقراطية كثيرة للمساندة والانضمام. بالإضافة إلى خلافاتٍ مع أقرب حلفائه، أي الولايات المتحدة. وخلقت المقاومة تأييداً جماهيرياً عارماً في العالم أجمع، بل تجري أكبر المظاهرات في الولايات المتحدة وبريطانيا "الراعي الرسمي" لهذا الكيان العنصري. وتفيد كل استطلاعات الرأي بأن نقلة نوعية كبيرة تحدُث في تغير موقف الشباب دون سنّ الثلاثين في اتجاه دعم القضية الفلسطينية، بل وأكثر من ذلك، المطالبة بتفكيك إسرائيل وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وهو ما كانت القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني تطالب به حتى أواسط سبعينيات القرن الماضي. باختصار شديد، أنجزت المقاومة المسلحة للقضية الفلسطينية ما لم يستطع أحد أن يُنجزه عشرات السنين.

لقد بدأت الولايات المتحدة، ومعها جميع الدول تقريباً، تدرك أنه لا سلام في الشرق الأوسط دون حل "عادل" للقضية الفلسطينية، وأنه لا بد من دولة فلسطينية إلى جانب دولة "إسرائيل"، وهو ما يطالب به الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس. وقد تصدّى العدو الصهيوني علناً لهذه الأفكار، وكشف عن حقيقة موقفه الرافض حلّ الدولتين بشكل سافر، وتناوب الوزراء الصهاينة، واحداً تلو الآخر، على رفض أي دولة فلسطينية، لا في الضفة الغربية ولا في غزّة. وأعلن صراحة رغبته في استمرار سيطرته الأمنية على غرب نهر الأردن واستمرار الاستيطان، بل ذهب بعض الوزراء شرقاً إلى ما هو أبعد من ذلك، وأصبح مصير السلطة التي يرأسها الرئيس أبو مازن في نظر الإسرائيليين واضحاً لنا جميعاً وللعالم أجمع.

من واجب عبّاس أن يبادر فوراً، ومن دون أي تأخير، للقاء قيادة المقاومة لبحث كل ما ترتب عن تصدّيها البطولي للعدوان

ألم يكن الأجدر، والحالة هذه، أن يخرج الرئيس عباس عن صمته وأن يدعم هذه المقاومة باللسان، طالما أن دعمها باليد غير ممكن لاعتبارات دبلوماسية، أو لنقلها صراحة كما قالها هو بنفسه لأن المقاومة تتعارض مع قناعاته؟ وإذا كان الدعم باللسان غير ممكن، ألم يكن من واجب الرئيس محمود عباس أن يبحث بنفسه مع المقاومة الفلسطينية المخاطر على الضفة الغربية والجرائم التي ترتكب بحقّ الشعب في غزّة، بصفته رئيساً لكل الشعب الفلسطيني؟ ولو من باب الدفاع عن سلطته في الضفة الغربية التي تتآكل يومياً بفضل الاستيطان والمستوطنين؟ ألم يسمع الرئيس الفلسطيني بخطط التهجير "الطوعي"؟ ألم يرَ خريطة وزير المالية الصهيوني سموتريتش؟ ما الذي يجب حدوثه كي يقتنع الرئيس بضرورة اللقاء بقيادة المقاومة؟ هل الرئيس الذي بمستطاعه أن يسافر إلى الرياض في مؤتمر بروتوكولي احتفالي لم ينتج منه أي شيء عملي مفيد، عاجز عن السفر إلى قطر أوتركيا ولقاء قيادة المقاومة؟ حتى ولو لتقديم الشكر لها سرّاً على ما قدمته للقضية الفلسطينية خلال الأشهر الثلاثة الماضية؟ هل يعقل أن يمرّ على بداية العدوان الصهيوني على غزة أربعة أشهر من دون أن يجري رئيس "كل الشعب" لقاءً مع من يلتفّ كل الشعب حولهم؟ ثم ماذا عن مستقبل قطاع غزّة بعد أن تضع الحرب أوزارها؟ لقد بدأ العدو يدرك تدريجياً، وسبقه الأميركان في ذلك، أن القضاء على حركة المقاومة وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين من رابع المستحيلات. لهذا ستقف الحرب وليس أمام الكيان الصهيوني طريقٌ آخر، سواء بقرار أميركي حازم، أو بتحوّل الأغلبية في الشارع إلى أغلبية برلمانية وفقدان الحكومة للثقة أمام الكنيست. فهل سيناقش الرئيس مستقبل غزّة مع أنتوني بلينكن وحده، من دون تفاهم مسبق قيادة المقاومة؟ أليس من مصلحة الرئيس أن يستقوي هو نفسه أيضاً بالمقاومة؟ ألم يدرس الرئيس عندما كان تلميذاً قصة "ألا إني أكلت يوم أُكل الثور الأبيض"؟ وقصة حزمة العصيّ؟ ألا يتذكّر قول رفيق دربه الشهيد أبو إياد: "مين هالحمار الذي يلقي سلاحه ويروح يفاوض"؟

كثيرة الأسئلة التي تدور في ذهن أي فلسطيني اعتاد على حركة الرئيس الشهيد ياسر عرفات في ظروف كهذه، فعندما نتذكّره وكيف كان يشغل وسائل الإعلام يومياً متنقلاً بين عاصمة وأخرى، يجري اللقاءات هنا وهناك، ونقارن بين ذلك وسكون الرئيس محمود عبّاس الذي اقتصرت كل حركته على زيارة القاهرة وعمّان و"مؤتمر الكلام" في الرياض، واستقبال بلينكن والمسؤولين الأوروبيين في مقر إقامته، "يستغرب" المرء هذا الصمت وهذا السكون.

ألم يشكّل هذا الصمت بيئة خصبة للمغرضين لمحاولة النيْل من المقاومة وتشويهها فيزيدوا الانقسام اتساعاً وعمقاً؟ خروج الرئيس في موقف واضح حازم، ولقاؤه علناً قيادة المقاومة، سيقطع الطريق على كل هؤلاء، خصوصاً أن منهم بعض مقرّبيه. كيف سنفسر قول قاضي قضاة فلسطين، محمود الهباش، المقرّب جداً من الرئيس عبّاس، وهو ثالث ثلاثة يرافقونه في حله وترحاله، والذي توعّد "حماس" بالمحاسبة الشديدة بعد انتهاء الأحداث؟ وعندما غرّد عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، عبّاس زكي، "خارج السرب"، مسانداً المقاومة ومفتخراً بزعيم حركة المقاومة في قطاع غزّة يحيى السنوار، جاءه الردّ من "فتح" نفسها بأن عباس زكي لا يمثل اللجنة المركزية، وأن تصريحاته خاصة به وحده. ولم يتخلّ الرجل عن موقفه المشرّف، بل استمرّ فيه، واعتبر ردّ حركة فتح بلا قيمة.

كثيرة الأسئلة التي تدور في ذهن أي فلسطيني اعتاد على حركة الشهيد ياسر عرفات في ظروف كهذه

كذلك صرّح القيادي في "فتح"، جبريل الرجوب، لإحدى الفضائيات بأنه يرحّب بحركة حماس، ولكن على قاعدة "السلاح الشرعي الواحد"، أي نزع سلاح "حماس" وتحويلها إلى نموذج آخر من الأحزاب السياسية الفلسطينية في الضفة الغربية التي لا حول لها ولا طول. وأخيراً وليس آخراً، جاء دور الوزير أحمد مجدلاني، الذي اعتبر أن "حماس" حركة إرهابية في واقعها الحالي. وبعد المقابلة الفضيحة، قرّر مجدلاني، أو قرّروا له، أن يتراجع عن تصريحه. وكان قد سبقه أسامة العلي، السفير السابق، وعضو المجلس الاستشاري لحركة فتح، المجلس الذي رغم متابعتي اللصيقة للشأن السياسي الفلسطيني والعربي لم أكن قد سمعت به، ولم أسمع بأي نشاط له، ولا أذكر أن أحداً قد جاء على ذكره يوماً منذ عام 1965، حتى جاءت تصريحات هذا العضو المقيم في عمّان، الذي اعتبر في مقابلة مع فضائية أن "حماس" مليشيا، ملمّحاً إلى عمالتها لإسرائيل! وكال لها الإهانات والإساءات، واصفاً الناطق الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام بـ "أبو زفت" ... إلخ. لم يراجع هذا نفسه كما فعل أبو ردينة وأحمد مجدلاني، ربما بسبب تقدّمه في السن وبسبب "ارتخاء عضلاته"، ما استدعى تدخلاً من أمين سر "المجلس المجهول" عضو اللجنة المركزية السابق لحركة فتح والوزير السابق نصر يوسف على المدعو أسامة العلي، معتبراً أن تصريحاته الأخيرة شخصية ولا تعبّر "بالضرورة؟" عن المجلس الاستشاري لحركة فتح. أليس من حقنا والحالة هذه الشك في أن موقف الرئيس غير المعلن وغير الواضح، الصامت الساكن، تجاه حركة المقاومة، وبالتحديد "حماس" هو ما يشيع هذه الأجواء التي تصبّ في خانة تفتيت الوحدة الوطنية؟

... من واجب الرئيس الفلسطيني أن يعيد قراءة موقفه من حركة المقاومة، وأن يرى بوضوح أكبر ما يقوم به المستوطنون، وما تقوم به حكومة الاحتلال من تقويض لسلطته التي يعرف هو أكثر من غيره ضعفها. من واجب الرئيس أن يبادر فوراً، ومن دون أي تأخير للقاء قيادة المقاومة لبحث كل ما ترتب على تصدّيها البطولي للعدوان، وأظن أن لقاءً مثل هذا ستكون له إيجابيات كثيرة على الشارع الفلسطيني وعلى مستقبل قطاع غزّة وعلى مستقبل الضفة الغربية وعلى مستقبل السلطة الفلسطينية ذاتها، وكذلك على مستقبل المقاومة، وسيحصن القضية الفلسطينية أمام محاولات تصفيتها.