الدولة الوطنية المغاربية والديمقراطية

13 اغسطس 2023

(محمد القاسمي)

+ الخط -

استقَرَّت الدول الوطنية في المغارب في فترات متقاربة من أواسط القرن العشرين، بعد سنوات متفاوتة العدد قَضَتْها تحت السيطرة الاستعمارية الإيطالية (ليبيا) والفرنسية تحديدا (المغرب، الجزائر، تونس، موريتانيا)، مثل ما قضتها شعوبها في الكفاح السياسي وغير السياسي من أجل التحرّر. وأقرأ هذا القول المتداول في نسبيته الخاصة: أي أن ما أشير إليه باسم السيطرة الاستعمارية لم يكن، حسب الحالات، إلا نوعا من الحماية التي طابُعها الأبوية، والتبشير المسيحي، وضمان الاستغلال، والعمل في سبيل تحديث البنيات الخاصة بالإنتاج، مع الحفاظ على مظاهر الوجود الخاص، وخصوصا منها مظاهر البنيان الإداري التقليدي الموروث من الأزمنة ما قبل الاستعمارية، كما كان عليه الحال في المغرب قبل (1912) وتونس (1882) وليبيا الخاضعة للسيطرة الإيطالية (1911)... إلا الجزائر التي أصبحت، منذ الاحتلال المباشر في الثلاثينيات الأولى من القرن التاسع عشر (1830)، ملحقة بـ"المتروبول" من دون قيد ولا شرط.

أريد القول بهذا إن خصوصية "الانتشار" الفرنسي في شمال أفريقيا كانت في مرحلة التوسّع الإمبريالي، الذي هو أعلى مظاهر النمو الرأسمالي، طمعا في تحويل البلدان، التي استقرّت فيها بمعاهدات واتفاقيات ممهورة في الغالب من "الأهليين المحليين"، إلى مصدر أساسي لتطوّرها الرأسمالي نفسه، وهو الذي أوجب عليها، بتفكير ليبرالي في مراحل كثيرة، خضوعا للمتغيّرات السياسية الظرفية، المتحوّلة أيضا، التي تحكّمت في حكّامها، "استنبات" أنظمة "رأسمالية تبعية" مرتبطة عضويا بالاقتصاد الرأسمالي نفسه الذي تتحكّم فيه.

والذي يهمنا من هذا القول بما قد نستنتجه منه في المسار التطوّري للديناميكية التي أحدثها تطوّر الاقتصاد الفرنسي في الدول المغاربية: أعني أن تشكُّل المقاومات الوطنية العاملة في سبيل الاستقلال لم يكن في العموم، من حيث البروز والتوسّع، سوى نتاج عضوي للتطوّر الاجتماعي الذي أحدثه ذلك الاقتصاد على الصعيد المحلي. وهو ما يفسّر لماذا كانت تلك المقاومات مدينية ونخبوية بالأساس، وأنها جعلت من السياسة المدنِيَّة (باتّساع النقمة الشعبية واستغلال المناخ الديمقراطي في "المتروبول" عادة) استراتيجية في المواجهة.. بما يستفاد من هذه الاستراتيجية من قدرةٍ على التفاوض والمساومة والتعاون، فلم يكن العمل العسكري المنظّم، في غالب الأحيان، رغم جسامة التضحيات بطبيعة الحال، إلا محاولةً للضغط وحشد عناصر تمليها المواجهات لتلك الاستراتيجية. مع الإشارة إلى اقتران ذلك، في الغالب، بالتطوّرات الاستثنائية التي مهدت للحرب العالمية الثانية وما ترتب عنها في أوروبا بالخصوص، وعلى الصعيد العالمي إجمالا.

كانت مقاومة مدينية نخبوية، ذات طبيعة دينية أيضا، لم تتوسّع شعبيا، بحسب السياقات الوطنية واختلاف ظروف المواجهة للسياسة الفرنسية، إلا لتأكيد الوجود المقاوم وإبراز الاختيار الذي يمكن أن يرسو عليه الحلّ، أي إما الارتباط العضوي بالاتحاد الفرنسي المعروض أو التسليم بالاستقلال الوطني المأمول. من هنا نفهم لماذا كانت مختلف الاستقلالات الوطنية عملية تفاوضية لم يُسَلّم بها المحتلّ إلا بالتنصيص والاعتراف الرسمي المُوَثَّق بمصالحه الحقيقية والممكنة، ولم يرض بها "الوطنيون" إلا لأنهم أدركوا طبيعة المصالح الأخرى التي يمكن أن تكون لهم في ظل الدولة الوطنية (التبعية).

العهد الجديد الذي كان من أماني التحرّر الوطني جاء تقريبا على النقيض مما تصوّره الحالمون به

 

ولهذا كان "الاختيار الديمقراطي" الذي خامر الوطنيين الأٌول في الدول المغاربية بمثابة حلّ ممكن لجميع التناقضات (الثانوية) التي تساكنت في جسد المقاومة وفعلت في المواجهة. وفي أساس هذا الاختيار ما وعاه هؤلاء، من خلال التجارب الفعلية داخل المجتمع، من اختلافاتٍ اجتماعيةٍ وإثنية ولسانية، وما تصوّروه أيضا من حلولٍ لمعضلات البناء الوطني والنهوض بالمجتمع، وما كان، أخيرا، في الواقع من الأماني المؤجّلة المرتبطة بالتناقضات العامة التي نمت وتطوّرت في صفوف الحركات الوطنية بأفقها السلمي. فكانت التطوّرات اللاحقة، وخصوصا عندما شرعت فرنسا في التخلّي عن مستعمراتها التاريخية ابتداء من 1960، على ضوء مفهوم الاتحاد الفرنسي 1946، هي التي عجّلت، بصورة واضحة، بالحل الذي أوجبته "التسوية التاريخية" التي فرضتها الظروف الاستثنائية، باختلافاتٍ واضحةٍ واستفاداتٍ ممكنة، على جميع الأطراف، وهي التي تُرجمت في بعض الدول المغاربية بلغةٍ إيحائيةٍ مفهومة مقولها: "الدولة المستقلة التي تجمعها بفرنسا روابط تكافل دائمة تُقْبَلُ وَتُحَدَّدُ بحرية"، ولكن أيضا مقابل الحماية العسكرية، واستغلال الموارد الاستراتيجية من الشركات الفرنسية الاحتكارية... إلخ.

والمعنى الحقيقي لذلك كله، وهو من إفرازات العهود الاستقلالية بتفاوتٍ بين الدول المغاربية، أن العهد الجديد الذي كان من أماني التحرّر الوطني جاء تقريبا على النقيض مما تصوّره الحالمون به، وخصوصا منهم الذين ناضلوا في إطار حركات اجتماعية منظمّة بهذا القدر أو ذاك من التنظيم المدني أو المسلح. وأول مظهر لهذا التناقض شاهدناه في المغرب بالصراعات التي انفجرت في السنوات الأولى التي تلت الاستقلال، ثم انصهرت في اختياراتٍ طبقيةٍ وسياسيةٍ جعلت من التسلط والانفراد بالسلطة والاستغلال المتصاعد أدواته المباشرة في الصراع وطرد المخالفين أو قتلهم. ولم يحد الأمر عن ذلك منذ الاستقلال المتأخّر للدولة الجزائرية، سواء من خلال الصراع الدموي المباشر، أو من خلال الانقلاب العسكري، أو عبر التصفيات الجسدية التي أماتت أهم روّاد العمل النضالي المقاوم في البلاد. ولم تسلم تونس الحبيب بورقيبة وأعوانه من ذلك أيضا، فانفردوا بالسلطة باعتبارهم الممثلين الجدد لمختلف المطامح الوطنية، ولكنهم قتلوا، في سبيل ذلك، اعتمادا على شرعية متوهّمة أيضا، جميع الخصوم الذين شاركوهم النضال الوطني من أجل الاستقلال، بما في ذلك الرموز البارزة التي غامرت بالنضال قبلهم. ومثل ذلك جرى في موريتانيا، إذ بعد فترة قصيرة من التفاهم النسبي بشأن مقوّمات بناء الدولة الجديدة، في دائرة الحماية الفرنسية اللصيقة، دشّنت القوى العسكرية والسلالية المتصارعة مرحلة انقلابات عسكرية متتالية.

كانت الاستقلالات الوطنية عملية تفاوضية لم يُسَلّم بها المحتل إلا بالتنصيص والاعتراف الرسمي المُوَثَّق بمصالحه الحقيقية والممكنة

بهذا المعنى، في اختلافاته الكثيرة على الصُّعُد المحلية بطبيعة الحال، وبصرف النظر عن طبيعة النظم السياسية القائمة (ملكية وراثية، جمهورية مدنية وعسكرية)، ظهر التناقض الجديد، ولعله كان الحاسم من دون ريب، واستقرّ بصفة نهائية، وعنه تفرّعت سياساتٌ متناقضة، مثل ما كان في أصل مختلف التطوّرات والأحداث الاجتماعية، ما كان منها إصلاحيا أو ثوريا، أو كان دمويا عنيفا، أو سلميا مهادنا.

وبناءً عليه، يمكن القول من دون تردّد: تفرّعت مختلف التطورات السياسية والاجتماعية والدستورية أيضا، بصورة واضحة، عن التناقض المذكور، أي بين "المصالح الوطنية" في العموم، من خلال تعبيراتها الأيديولوجية وأطرها التنظيمية المختلفة ومطامحها الجزئية أو التفصيلية، و"الطبقات الاجتماعية" الجديدة التي كرّست السلطة الوليدة وجودها الطامح غداة الظفر بالاستقلال التبعي عن المستعمر القديم. ويكفي أن نشير، في ما يتعلق بالاختيار الديمقراطي الذي كان مطمح الحركات الاستقلالية في البلدان المغاربية، إلى أن التناقض المشار إليه حدّد جملة من التصوّرات التي حوّلت الاختيار الديمقراطي نفسه من مطلبٍ وطنيٍّ إلى اختبار أو وسيلة سياسية لبناء الشرعية المطلوبة، وتبرير مسوّغاتها السياسية والأيديولوجية والدينية، لضمان الاستقرار وصوغ "أهداف وتوجّهات" شعبوية، بما يتضمّنه ذلك كله من أحكام "سلطوية أبوية"، صريحة أو ضمنية، حول أهلية الشعب ومستوى تطوّره الفكري والسياسي، هذا فضلا عن أنه أوجب أزواجا من السياسات العامة، لا من حيث الإنتاج أو الإنجاز، بل من حيث التصوّر والنهج، لم تَحِد عن تلك "الجدلية الفعّالية" التي قوامها القمع في مقابل النضال، والاستغلال لتكريس التفاوت والتخلف، والتحكّم المطلق لشرعنة الاستبداد بصيغ مختلفة، أي ما يمكن نعته بتعبير هنتنغتون بـ"الديمقراطية التحكّمية" التي أصبحت الشكل الرسمي للهيمنة السلطوية في مختلف الدول المغاربية.