الدولة العربية وأولوية التحديث والدمقرطة
تخوض المجتمعات العربية منذ عقود معارك التحديث، معارك في السياسة والمجتمع والتاريخ، وأخرى في الثقافة والتربية. وتعكس انفجارات الربيع العربي، بجميع وقائعها وتداعياتها، وكذا صورها المتواصلة أو الكامنة، ما يُبرز أشكال تطوّر هذه المعارك. وقد بَنت المعارك المذكورة جملةً من المكاسب، وحصلت فيها انتكاساتٌ وتراجعات. ويشكِّل مشروع التحديث السياسي البؤرة الناظمة لأسئلة اللحظة التاريخية الراهنة في مجتمعنا، نتبيَّن ملامحه وصوره في مختلف مظاهر المجتمع، وقد انخرطت النخب العربية في عمليات بنائه في السياسة والثقافة منذ منتصف القرن الماضي، بعد استقلال أغلب البلدان العربية.
لا تتمتع خيارات التحديث والعلمنة والدمقرطة في مجتمعاتنا بقبول الجميع، فهناك من يتحمَّس لضرورة تحقيقها، ويعتبرها قدرًا تاريخيًا لا يمكن تجنّبه. وهناك من يراها خياراتٍ وافدةً مع المستعمر ويلزم رفضها. ويرى طرف ثالث أن أفضل السبل لاستيعاب روحها يرتبط بعملية إعادة تبيئتها وتمثلها، بكل ما تستدعيه هذه العملية، من إعادة للنظر في بعض أسسها ومقدّماتها، بحثًا عن إمكانية ملاءمة محتواها مع تاريخنا الذاتي وشروطنا الاجتماعية وتراثنا المحلي، وكذا أسئلة حاضرنا ومقتضياته.
ولَّد واقع السلطة في مجتمعاتنا، منذ المرحلة الاستعمارية، خليطاً عجيبا من أشكال السلطة المستبدّة، وعشنا ولا نزال حالاتٍ من التأرجح والتبعية والاختلاط، تدلّ بصورة قاطعة على أننا لم نتمكّن بعد من استيعاب دروس الحداثة السياسية، دروس الدولة الوطنية، كما تم ترتيب قواعدها وتقنينها في التاريخ الحي، تاريخ البشر، وتاريخ النخب السياسية المتصارعة في التاريخ.
لم تستطع قوى المجتمع الجديدة في مجتمعاتنا أن تُكَسِّر أركان المجتمع التقليدي وبقاياه المتجذّرة في حياتنا، خلال النصف الثاني من القرن العشرين ومطالع القرن الجديد
نتصوَّر أن التفكير في أسباب الإخفاق المتواصل لمشاريع التحديث في السياسة والثقافة والدين، في أبعادها المختلفة داخل المجتمعات العربية، يدعونا إلى مواصلة التفكير والعمل في أولوية التحديث والدمقرطة، فلا خلاص لنا من مختلف مظاهر التأخّر وسيادة التقليد، إلا بمزيدٍ من العمل الهادف إلى تملُّك المُشْتَرَك الإنساني، في المعرفة وفي السياسة، كما تبلور وتطوَّر في الأزمنة المعاصرة. وضمن هذا الأفق، نُدرج عنايتنا المتواصلة بمفردات التحديث، الدمقرطة، التنوير، المأسسة، العقلنة، التحرّر، التواصل، التقدّم، وهي المفردات التي تعبر عن روح الفعل الحداثي في التاريخ... إنها تتيح لنا بناء خياراتٍ تخصّنا كما تخصّ الآخرين، وتزداد أهمية هذه المسألة، عندما نعرف أن مضامين التحديث والعلمنة والدمقرطة في الحاضر العربي والعالمي تُعَدُّ موضوعاتٍ مفتوحة، إنها قضايا تروم بناء مشاريع في العمل الإنساني الجماعي، الهادف إلى تدبيرٍ أفضل لمتطلبات العيش المشترك.
مشكلات الدولة اليوم في مصر والمغرب، وفي سورية ولبنان وتونس، ومشكلات تدبير وضع السلطة والدولة في كل من العراق وليبيا والسودان والجزائر، ومفارقات السلطة والثروة في دول الخليج العربي وإماراته، تُعَدُّ قضايا مركبة، وهي محصلة تاريخ اجتمعت فيه عوامل مختلفة، ساهمت في مزيد من توسيع المسافات القائمة بين المجتمع والدولة. وقد واجهت النخب العربية مظاهر استبداد الدولة بأساليب وطرق مُتعدِّدة خلال الخمسين سنة الماضية. وفي سياق المتغيرات التي شكلت الملامح الكبرى لنظام العلاقات في الداخل وفي الخارج، كما تطورت خلال الحقبة المذكورة، إلا أنها لم تتمكّن من بلوغ المرامي والأهداف التي سطرت.
لم نتمكّن بعد من استيعاب دروس الحداثة السياسية، دروس الدولة الوطنية، كما تم ترتيب قواعدها وتقنينها
يدفعنا واقع الدولة السائدة اليوم في أغلب البلدان العربية لا إلى التفكير فقط في كيفيات انتقال كثير من أوجُه الحضور الوضعي لثقافةٍ ومؤسساتٍ انتقلت إلينا منذ ما يقرب من قرن، قمنا خلاله بجهد كبير في تكييف بعض بنياتها ومؤسساتها وتبيئتها مع قيمنا، ومع كثير من أوجُه ممارستنا السياسية. يدعونا واقع الدولة في مجتمعنا إلى مزيد من البحث عن كيفيات تحويل مشروعيتها إلى فعلٍ يخصّنا، مشروع يفترض تعاقدات وعقوداً تمكّنها من تدبير سياستنا العمومية، تعاقداتٍ تحولنا إلى فاعل في مختلف خياراتها ومواقفها وإجراءاتها في التدبير والإنجاز.
يؤكد تشخيص الملامح العامة لأوضاع الدول في أغلب البلدان العربية على الصفات التي أصبحت تلصق اليوم بها، اعتماداً على أبحاث ودراسات سياسية واجتماعية عديدة.. إن تأرجح الدولة العربية بين قيم الموروث الطوباوية والقيم الوضعية التاريخية، الصانعة لأشكال حضورها الجديد في المجتمع، يجعلها هَجينةً، ويلحق بها، وبالأدوار المنوطة بها كثيراً من الهشاشة. وعندما نضيف إلى ما سبق عدم قدرتها على بناء القواعد والأسس الكفيلة بترسيخ مؤسَّساتها، وتطوير أدائها داخل المجتمع، نفهم جوانب جديدة من صوَر قصورها في بناء وطنٍ وتجديدِ مجتمعٍ، وكذا تطوّره وتقدمه، الأمر الذي يُنْتِج، في النهاية، ما تُعايِنه من صوَر التبعية، حيث تواصل القِوى الاستعمارية والقِوى الكبرى في عالمنا تقسيم المجتمعات العربية، وتصنع من الدُّوَيلات الصغيرة فوق الجغرافيا العربية، فسيفساء من المجتمعات والدُّوَيلاَت، حيث يتواصل حرمانها من كل ما يؤهلها للنهوض والاستقلال، بحسابات المصالح والاستراتيجيات السائدة في عالمنا.
التعدّدية السياسية الحزبية الحاصلة في بعض مجتمعاتنا لم تستطع تعزيز قيم الحداثة والتحديث
لا تقبل دولة الفرد الصانعة اليوم في مجتمعاتنا لمؤسسات العشيرة والطائفة مشروع التداول على السلطة، ولا مشروع المشاركة، ولا مشروع المأسسة القانونية والعقلانية، وهي تُعَدُّ اليوم المظهر الأبرز لمختلف مظاهر مأزقنا السياسي الراهن. ومختلف المظاهر والتقنيات الجديدة المرتبطة بنموذج الدولة الوطنية التي تمارسها دولنا، توظفها فقط للتظاهر بآليات التحديث، وتمارس، أولاً وأخيراً، ما يرسخ طغيانها وجبروتها.
لم تستطع قوى المجتمع الجديدة في مجتمعاتنا أن تُكَسِّر أركان المجتمع التقليدي وبقاياه المتجذّرة في حياتنا، خلال النصف الثاني من القرن العشرين ومطالع القرن الجديد. كما أن التعدّدية السياسية الحزبية الحاصلة في بعض مجتمعاتنا لم تستطع تعزيز قيم الحداثة والتحديث. كما أن مائتي سنة من تجربة التعلم من الآخر والآخرين في تاريخنا الحديث لم تولد في ثقافتنا ما يهيئ السبل المساعدة في عملية تجاوز الذهنيات العتيقة ومنظومات الفكر التقليدي التي لا تزال تتمتع بحضور قوي في ثقافتنا المعاصرة. ومع ذلك، تدفعنا معركة الراهن، المتمثلة كما قلنا في معركة تدبير بناء الدولة الوطنية الديمقراطية أولاً، إلى مواجهة مآلنا بمنطق التدرّج والتوافق ولغةِ التاريخ.