الدرس السنغالي
في عزّ العتمة التي تُخيّم على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بفعل الصمت المخجل، والعجز المذلّ، والتواطؤ الدنيء، والتطبيع الإجرامي مع جرائم الإبادة التي يرتكبها الكيان الصهيوني يومياً في غزّة المحاصرة والمدمّرة، تلمع نقطة ضوء مُشعّة من مكان بعيد في الجنوب، من السنغال، بلاد "التيرينغا"، البلد الأكثر استقراراً في منطقة على هامش حزام الانقلابات، وعلى خطّ أعاصير الاضطرابات السياسية. عقوداً، ظلّت السنغال نموذجاً ناجحاً للاستقرار السياسي منذ استقلالها عن فرنسا، الأمر الذي أكسبها ومؤسساتها الديمقراطية احترام وإعجاب كثيرين داخل القارّة الأفريقية وخارجها. وبما أنّ أوضاع البلد كانت في استقرار شبه دائم، فقد ظلّ شبه منسيّ من وسائل الإعلام حتى فاجأ الجميع أخيراً بانتخاباته التي أحدثت زلزالاً كبيراً في منطقة غرب أفريقيا، وحملت معها دروساً كثيرة تُحتّم علينا الوقوف عندها للتعلم منها بكثير من التواضع.
ما شهدته السنغال ربيع ديمقراطي حقيقي صنعته إرادة الشعب السنغالي، وهذا هو الدرس الأوّل من هذه التجربة التي بدأت قصّتها المثيرة للإعجاب والانجذاب مع بداية الولاية الثانية من حكم الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال، الذي انتشر في عهده الفسادُ داخل أجهزة الدولة والحزب الحاكم، ما أدّى إلى تأجيج غضب الشارع، وتقوية صفوف المعارضة التي وجدت لها صدى كبيراً داخل المجتمع. وطوال السنوات الثلاث الماضية، عاشت السنغال على وتيرة توترات سياسية ومواجهات بين السلطة الحاكمة والشارع الموالي للمعارضة، وأدى الموقف الغامض للرئيس بشأن ما إذا كان سيترشح لولاية ثالثة إلى تأجيج الاشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين الرافضين تمديد عُهدته. ودخلت البلاد في حالة احتقان حادّ بسبب انغلاق الأفق السياسي، وتردّي الوضع الاقتصادي، واستشراء الفساد. وتحت ضغط الشارع، اضطرّ الرئيس المنتهية ولايته إلى إعلان عدم ترشّحه لولاية ثالثة، وبدأ التخطيط ليرشّح بديلاً عنه من داخل حزبه، ولتمهيد الطريق أمام مرشّحه، قام بتقليص الحرّيات المدنية، وقمع التظاهرات، وألقى بمئات المعارضين في السجن، بمن فيهم الرئيس المنتخب الحالي باسيرو ديوماي فاي، الذي لم يكن معروفاً إلا بحكم قربه من مُعلّمه المعارض الكاريزمي عثمان سونكو، الذي زُجّ هو الآخر في السجن بتهم قانونية وأخلاقية لضرب مصداقيته أمام أنصاره. وفي الوقت الذي اعتقد فيه ماكي سال أنّ الأمر استتب له، ارتكب "غلطة الشاطر" عندما فاجأ مواطنيه والعالم بقرار تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كانت مقرّرة يوم 25 فبراير/ شباط الماضي، وتمديد ولايته عشرة أشهر أخرى، وهذه المرّة بتصويت من البرلمان الذي يسيطر حزبُه على الأغلبية فيه. هنا سيجد ماكي سال نفسه في مواجهة مباشرة مع الشارع وأحزاب المعارضة التي تحالفت ضدّه، ودخلت البلاد من جديد في دورة من الفوضى والاضطرابات واجهها ماكي سال بالقمع والسجون. ومع ذلك، لم تنهزم إرادة الشعب الذي أظهر نضجاً ووعياً سياسيين عاليين، وهو ما شجّع المحكمة الدستورية على الانتصار له حقناً للدماء وصوْناً للديمقراطية السنغالية، التي شهدت طوال العقود الستة الماضية تداولاً ديمقراطياً وسلمياً للسلطة بين الرؤساء المنتخبين الذين تعاقبوا على حكم البلاد منذ استقلالها.
يكمن الدرس السنغالي المحض في طبيعة المجتمع السنغالي الذي أثبت أنه يستحقّ ديمقراطيته
وهذا هو الدرس الثاني التي نتعلّمه من الديمقراطية السنغالية، وهو صلابة المؤسّسات الديمقراطية، وحِكمة وشجاعة من يمثّلونها عندما ينتصرون لإرادة الشعب الذي يمنح مؤسّستهم شرعيتها ويحميها في الوقت نفسه. فرغم اتهام القضاء في السنغال بالفساد، إذ إنّ من بين أهم ما تضمنه برنامج الرئيس الفائز في الانتخابات التي انتظمت أخيراً هو محاربة فساد القضاء، إلا أن القضاء، ممثلاً في المجلس الدستوري في السنغال، وهو محكمة تضمّ كبار قضاة البلد، لعب دوراً مهماً في إفشال خطة الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال في تأجيل الانتخابات عن موعد استحقاقها الدستوري بعدما لاحظ أنّ حظوظ مرشّح حزبه للفوز فيها ضئيلة، فجاء قرار المجلس الدستوري، في 6 الشهر الماضي (مارس/ آذار)، حاسماً في إعادة الأمور إلى نصابها بعد أن كادت تخرج عن السيطرة وتجرّ البلاد إلى الفوضى أو إلى حرب أهلية، فقضى بضرورة إجراء الانتخابات قبل 2 إبريل/ نسيان الحالي، تاريخ نهاية ولاية الرئيس ماكي سال. وثانياً، رفض إعادة النظر في حالات المرشّحين المحتملين المستبعدين الذين فشلوا في معايير التأهل، وهو ما أفسح المجال لترشّح الرئيس الفائز باسيرو ديوماي فاي. وجسّد القراران انتصاراً حاسماً للمؤسّسات والقواعد التي تقوم عليها الديمقراطية السنغالية، وأثبتت هذه المؤسّسة نفسها حارسة للديمقراطية السنغالية وحاميتها من الانزياح نحو السلطوية. فلو كان مثلاً في تونس مجلس دستوري لما كان سهلاً على ديكتاتور فاشل، مثل قيس سعيّد، أن يجرّ البلاد نحو مستنقع السلطوية الرثّة. وتلك إحدى أكبر أخطاء حركة النهضة التي لا تغتفر، لأنّها لم تسع إلى تنصيب هذا المجلس طوال العقد الذي حكمت فيه البلاد. لكن تلك قصة أخرى لأصحابها ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا.
أثبتت الانتخابات الرئاسية في السنغال أنّ التداول على السلطة ممكن سلماً، وعن طريق صناديق الاقتراع، وهنا سحر الديمقراطية وقوّة جاذبيتها
يكمن الدرس السنغالي المحض في طبيعة المجتمع السنغالي الذي أثبت أنه يستحقّ ديمقراطيته، بما أنّه لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين، فمنذ تسعينيات القرن الماضي عندما اجتاحت موجة التحوّل الديمقراطي كثيراً من دول غرب أفريقيا، كانت السنغال من أكثر الدول التي نجح فيها هذا التحول بفضل وجود مجتمع مدنيّ مسيّس وواعٍ، ومجموعات طلابية ونقابية نشطة، وجيل جديد من السياسيين المعارضين. هذا الجيل من السنغاليين هو الذي أثبت أنّ التغيير ما زال ممكناً عن طريق صناديق الاقتراع التي أوصلت إلى الحكم شخصاً مغموراً، كان قبل عشرة أيام يقبع داخل زنزانته لينتقل منها مباشرة إلى القصر الرئاسي.
وتبقى أهم دروس التجربة السنغالية هي الموجّهة إلى دول المنطقة التي تعصف بها الانقلابات العسكرية، خاصة دول غينيا والنيجر ومالي وبوركينا فاسو، حيث يأمل كثير من المراقبين بأن تشكل هذه التجربة لحظةً حاسمةً في تعزيز وتقوية النظام الديمقراطي في السنغال والدفاع عن الديمقراطية في جميع أنحاء غرب أفريقيا على نطاق أوسع، في وقتٍ يتعرّض فيه النظام الديمقراطي في بلدانها لتهديد حقيقي. فقد أثبتت هذه الانتخابات أنّ التغيير والتداول على السلطة ممكن وبالطرق السلمية، وعن طريق صناديق الاقتراع، وهنا يكمن سحر الديمقراطية وقوّة جاذبيتها التي نتمنّى أن تعمّ المنطقة وتصل رياحُها إلى البلاد العربية.