الدراما الأمازيغية والديمقراطية الثقافية
ليس من السهل أن تشدّ انتباه المغاربة في رمضان، بل ويكاد يكون مستحيلا أن تتغافل عن حجم الامتعاض الذي يكنونه لجلسات التعذيب القسري التي لطالما فرضت قسرا على موائدهم التلفزية، وجوه مكرورة وقصصٌ تنتمي من حيث الإبداعية والجودة إلى مسلسلات الدرجة الثالثة وبرامجها، تلك المواد الإعلامية التي يعلم الجميع أنها لا تعبأ بنسب المشاهدة أو ذوق المشاهد أو استمتاعه من عدمه، وهي وجهٌ آخر للفساد الذي ينخر هذا الجسم ويسيطر عليه. غير أن هذه الوضعية قد خفّ وقعُها اليوم، فالجميع يعلم ما حققته شبكة الإنترنت من حرية إعلامية في مجتمعاتنا ولا تزال، فأوجدت إعلاميين جُددا، وشروطا جديدة، ومواضيع مختلفة أيضا، ففتحت الباب لكل من امتلك الموهبة والجرأة، ولمن لا يمتلكها أيضا، وساعدت في إيجاد مواد إعلامية عديدة جديدة، شكّلت فارقا في طبيعة المواد التي يقبل عليها المشاهدون، ليكون المحدّد هو المنافسة والجدّة والجودة. ورغم ذلك لم يتحرّر المغاربة مطلقا من مواد هذه القنوات التي تقتات على أموال دافعي الضرائب، بالأخص حينما تفاجئنا بانفلات مادّة إعلامية مميزة هنا وهناك.
وأنشأ المغرب قناة أمازيغية يتيمة ضمن القنوات الرسمية للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية، والمسمّاة (قناة تمازيغت أو الثامنة)، انطلق بثها الفعلي سنة 2010، وتتقاسم زمنها الإعلامي ثلاثة روافد لغوية، تشلحيت وتمازيغت وتريفيت، ويعلم جل مغاربة الداخل وبلاد المهجر حيوية الإنتاج الفني الأمازيغي في المغرب، والذي ظلّ دوما إبداعا ذاتيا ملتصقا بالهامش والظل، رغم انتشاره الكبير في المغرب وأوروبا، ورسوخه في ذاكرة المغاربة.
تُسجّل ملاحظة بخصوص تصاعد وتيرة جودة المادة الإعلامية الأمازيغية، الآخذة في التطوّر سنة بعد أخرى، بالأخص الدرامية منها. وسيلاحظ المتابع لمواد هذه القناة خلال هذا الموسم الرمضاني تنوع الإنتاج الناطق بالروافد اللغوية الثلاث، وإن كانت لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب، ولا تحترم الميزانية التي خصصت نسبة 30% للأعمال الدرامية والبرامج الأمازيغية، إلا على الورق، حسب الانتقاد الذي أبداه المخرج مصطفى أشاور في مقابلة سابقة مع موقع أصوات مغاربية، وقد قال إن المسألة تعبير واضح عن غياب إرادة سياسية حقيقية لدمج هذا المكوّن في المجال السينمائي والدرامي المغربي والإعلامي عموما بشكل جادّ. وفي صدارة المواد التي قدمتها القناة هذه السنة، سلسلة "بابا علي" برافد "تشلحيت" لغة الجنوب المغربي (سوس)، ثم سلسلة "الصفقة" برافد "تريفيت" لغة أهل الريف في الشمال المغربي، وغيرها. و"بابا علي" (تنطق مرققة) اقتباس واضح من حكاية "علي بابا والأربعون حرامي"، شكّلت مادة درامية وكوميدية نوعية (إنتاج شركة وردة)، بعد جزأين سابقين، وقد أثبتت اليوم جدارتها وسط ما تقدمه القنوات العمومية المغربية، حيث تنافس بقوة ملحوظة على نسب المشاهدة الخاصة بالبرامج والمسلسلات الأخرى المنتجة بالدارجة المغربية، وعلى "يوتيوب" كذلك. فما المختلف الذي لاحظه المغاربة فيها؟
تعطش المبدعين في المجال الأمازيغي للاندماج في الإعلام المغربي بشكل أكبر، والقدرة على المنافسة والتعبير ومغايرة المألوف
أولا، لا يمكن لنجاح هذه السلسة إلا أن يؤكّد تعطش المبدعين في المجال الأمازيغي للاندماج في الإعلام المغربي بشكل أكبر، والقدرة على المنافسة والتعبير ومغايرة المألوف، وهي الملاحظة التي سجّلها مخرج هذه السلسلة مصطفى أشاور، والتي تعبر عن شريحة مهمة من المغاربة يائسة من الإقصاء المتعمّد الذي يمارس على الثقافة الأمازيغية بكل موارد غناها المتنوعة، والتي تملك القدرة على التعبير عن المغرب العميق. وهي المسألة التي برع كاتب السيناريو وبطل السلسلة في الآن نفسه الفنان أحمد نتاما في التقاطها ببراعة، فقدّمها بطريقة تحترم ذكاء المشاهدين، وتحاول أن تعكس جوانب من انشغالات المغاربة في واقعهم سواء في الجبل والبادية أو في المدن الكبرى، رغم فضائها القروي وسياقها الحكائي المتخيّل والتاريخي. وأخيرا قدرتها على دمج مختلف مكوّنات التعدّد الثقافي والديني في المغرب (لسنيا، لباس، أطعمة، معمار، حرف، عوائد وطقوس..)، بطريقةٍ فنيةٍ تستعيد بعضا من "المغرب الذي كان" اقتباسا من عنوان كتاب الصحافي البريطاني دفين طنجة والتر هاريس (ترجمة حسن الزكري، 2022).
عندما تجتمع الموهبة مع القدرة على الإنجاز، تبرز دائما أعمال إبداعية هامة، وقد تحقّق في هذه السلسلة بعض من ذلك، حيث اجتمع في شخص أحمد نتاما السيناريست والممثل المبدع والمهموم بشواغل الفن، واجتمع في شخص مصطفى أشاور المخرج والمبدع الحريص على تمثيل هذا الجانب من الثقافة المغربية بشكلٍ يسعى إلى تحقيق "الديمقراطية الثقافية" كما اصطلح عليها كتاب "التعبيرات الشبابية والديمقراطية الثقافية" (ياسين أغلالو، فاتن مبارك، 2019). ومن دون أن نغفل براعة بقية العاملين في السلسلة من ممثلين كبار.
وختاما، يمكن القول إن مزيدا من حضور الأعمال الأمازيغية، سواء سينما أو برامج أو موسيقى، داخل الفضاء الإعلامي المغربي الرسمي، لا يمكنه إلا أن يعبّر عن ديمقراطية فنية واعدة، يمكنها أن تشكّل قناة جادّة للتعبير عن تطلعات المغاربة المستقبلية، ويمكنها كذلك أن تعبر عن قدراتهم المتجدّدة على تجسيد مخيالهم الفني في قوالب إبداعية معاصرة، تتوارد فيها كل مكوّنات الثقافة المغربية بنوع من المساواة التي تحترم نباهة المواطن وذوقه، وتعلي من قيمة الربط بين التاريخ والحاضر، والقدرة على الاستمرارية والتجدّد.