الخروج من الملعب
لماذا تحصد كرة القدم كل هذه الشعبية على امتداد العالم؟ سؤال ما زال عالقًا في الشباك، وتحتاج الإجابة عنه دراية في الفلسفة وعلم النفس؛ لأن من يعتقد أنها محض لعبة للتسلية والترفيه وتزجية الوقت لن يستطيع تفسير النوازع الإنسانية، ومناطق اللاوعي المظلمة في أغوار النفس.
صحيحٌ أنها بدأت لعبة، لكنها تحاكي واقعًا بشريًّا متجهّمًا أراد الإنسان أن يحوّله إلى لعبة ليقوى على تحمّله، وفق شروط فضلى مغايرة لما يعيشه، فاختار مضمارًا مصغّرًا يسيطر عليه، وفرقًا تمثله داخل المستطيل الأخضر، وحكّامًا محايدين، لا منحازين، يلتزمون القوانين، ويعاقبون المعتدي، حتى لو كان يمثل دولة عظمى.
ومن اخترع اللعبة، كان يعرف جيدًا أن العالم لا يعيش من دون استقطاب، وسمته التنافس دومًا، فكان لا بدّ من وجود فريقين "قطبين" داخل المضمار يتنافسان على الفوز، لأن اللعبة، بطرف واحد فقط، تعني أن الفريق يلعب مع نفسه، ولن يستقطب أحدًا إليه، وستكون اللعبة مثار سأم وملل، والمدرّجات خلوًا من المتفرّجين، لكنه استقطابٌ من النوع المحبّب، والتنافس شريف، لا يقوم على الاحتكار، ومحو الطرف الآخر، إذ في وسع الطرف المهزوم أن يرمّم ذاته ويعرف نقاط ضعفه، ويستعدّ لجولة أخرى يستعيد فيها اعتباره، ويصبح هو الطرف الفائز، فاللعبة دوّارة، على غرار الكرة الأرضية ذاتها التي لا يجدّدها غير الدوران وتبدّل الفصول.
وذلك كله نقيض الواقع، القائم على استقطاب من طراز متوحّش، يتساوى فيه "الخصم والحكم"، والطرف الأقوى يفرض شروطه وأحكامه، وبطاقاته الحمراء والصفراء، ويحتكر الموارد والثروات، ولا مكان فيه لأي نوع من التنافس الشريف، ومن يفكّر بالمنافسة يُطرد فورًا، وربما يُباد عن بكرة أبيه، ويصبح من الدول "المارقة"، في أقل تقدير.
وفي كلتا اللعبتين، الواقعية والمرادفة، يحتاج الأمر إلى "متفرّجين" يلتزمون المقاعد، لكن من طرازين متعاكسين، الأول يهتف لـ"الحكّام"، والآخر يهتف للاعبين الحقيقيين، الذين يبذلون عرقهم وجهدهم لتحقيق الفوز. ومع فارق آخر قوامه أن متفرّجي "الحكّام" والمطبّلين لهم هم إمّا من المُحضَرين عنوة إلى المدرّجات؛ لإشعار الحاكم بسيادته وسلطته، أو من المنافقين الذين يهرولون طوعًا للتذلّل ولمّ الفتات.
وثمّة تمايز آخر، فملعب "الحكّام" يخلو عادة من دكّة الاحتياط؛ لأن الحكّام يمقتون فكرة "البديل"، فهم على قناعةٍ تامة أنهم لا يتبدّلون ولا يتكرّرون، سيما فئة الحكام من دول العالم الثالث الذين دشّنوا التاريخ وختموه. أما في اللعبة الموازية، فثمّة دكّة احتياط حقيقية، تتوفر على بدلاء بكامل جهوزيتهم وتوقهم للحلول مكان المتعبين والمستنفدين والمصابين، وقد يبرهن البديل أحيانًا بأنه خير من سلفه، تمامًا كما حدث في أحد مونديالات التسعينيات، عندما اضطرّ مدرّب تشيلي إلى استبدال حارسه المصاب بآخر على دكّة الاحتياط، فكان مفاجأة المونديال الحقيقية، عندما لمع نجمُه، وحصل على جائزة أفضل حارس.
يبقى السؤال: ما دامت لعبة كرة القدم فضلى ومثلى إلى هذا الحدّ، فلماذا تستهوي "الحكّام" بمختلف مشاربهم، ديمقراطيين وطغاة؛ سيما وأنها تكشف سوآتهم وعوراتهم، وتعرّي ما يفتقدونه هم في ملعب الواقع؟ أعتقد أن الإجابة مستعصية بعض الشيء. ولكن، شخصيًّا، أرجّح أن هذه اللعبة اختراع من بنات أفكار حاكم ما كان يسعى إما إلى "التطهّر" الذاتي عبر إيجاد "دولة" موازية عمادها أرض دائمة الخضرة، تبهج الشعب، وتدار بالقانون الفاعل، ولا تخرُج أحداثها عن السيطرة .. دولة يشتاقها الشعب الذي لم تنصفه القوانين يومًا. أما حكام الدول العظمى، فأرادوا للبشرية تنفيسًا قائمًا على قطبية حقيقية، نظيفة ومعقّمة، لا يتجاوز فيها قطبٌ على آخر، أو على دولة من دول الهامش (المتفرّجة)، إلا بالتنافس الشريف، والعادل .. دولة يستطيع المؤهلون فيها أن يحصلوا على فرصةٍ لإثبات الذات، إن فكّروا يومًا بمغادرة دكة الاحتياط.
لهذا كله، ومع طول الامتداد الشعبي المهووس بهذه اللعبة الموازية، أخشى أن لا نخرج يومًا من ملعب كرة القدم.