الحوار مع القتلة والمجرمين
ترى الدولة المصرية أن معارضيها، كلهم، شخصٌ واحد، هو ذلك الذي حمل السلاح، وقتل الجنود. هكذا أفادت أذرعتها الإعلامية طوال تسع سنوات مضت. وسمعنا، ربما لأول مرة في تاريخ هذه الدولة، أسماء كتّاب ومفكرين وباحثين وأكاديميين مرموقين وصحافيين وإعلاميين ونجوم فنٍّ وكرة قدم، إلى جوار أسماء إرهابيين وقتلة ومجرمين، وجرى التعامل مع الجميع وفق المنطق نفسه، سواء بالسجن أو التشريد مع التجريس الإعلامي في الحالتين. ركب الجميع الحمار بالمقلوب، وطاف بهم المنادي على "الخلايق"، يخوض في أعراضهم السياسية وأحيانا الشخصية (مع الأسف).
وفي المقابل، لم يكن الإعلام الموازي أقلّ شراسةً، واعتبر، بدوره، الدولة، كلها، محض مجرمٍ ومعتدٍ، وله في ذلك أسبابه وموجّهاته، ومصالحه المادية والسياسية. تحرّك الطرفان وفق بوصلة المصالح، من دون شكّ، وحسمت الدولة المعركة لصالحها، ولكن بعد كمٍّ من ضحايا الطرفين، لم يحرّكهم سوى الانحياز لقيم سياسية ووطنية، ودفعوا، أكثر من قياداتهم ونخبهم، من دمائهم وأيامهم؟
يرى كل طرفٍ في نفسه صاحب حقٍّ وقضية في مواجهة مجرم وقاتل، وله أسبابه وأحجياته وقراءاته وسدنته. ولو انشغلنا، ولو قليلا، بمتابعة الأصوات الجادّة في كل فريق، وما لديهم، بعين التفهم، لا الانحياز أو الانحياز المضاد، لرأينا حجم التشابه المدهش بين الطرفين، حدّ التطابق أحيانا، وهو ما يفسّر حجم التنافر، ويؤكّد على استحالة التجاذب بين قطبين متشابهين إلى هذا الحد.
ما الذي تعنيه الدعوة إلى الحوار الوطني إذن؟ وهل يمكن الحوار مع القتلة والمجرمين؟ السؤال يطرحه الطرفان، بالمناسبة، وثمّة خطٌّ، هو الأعلى صوتا، لدى الطرفين، يرفض الحوار للأسباب نفسها، ويتبنّى مفردات الخطاب نفسه، تقريبا، والحجج الرومانسية التي تبدو أخلاقية، والمرارات التي تبدو خبراتٍ، والتخمينات التي تبدو معلومات، والانطباعات والصور الذهنية، الحدّية، أبيض وأسود، حق وباطل، خير وشر، ملائكة وشياطين، التي حلّت محلّ الواقع وتعقيداته.
يفرّق "دليل الحوار الوطني للممارسين" (من منشورات مؤسسة بيرغهوف الألمانية، 2017) بين نوعين رئيسين من الحوارات الوطنية: آليةَ لمنع الأزمات أو إدارتها، وهي حوارات "قصيرة المدى" من أهدافها الاستراتيجية مواجهة العنف المسلح وحله أو منعه من الأساس، وكسر حالة الجمود السياسي، وإعادة إرساء حد أدنى من التوافق السياسي. آليات للتغيير الأساسي، وهي حوارات طويلة الأمد، وتهدف إلى إعادة تعريف العلاقات بين الدولة والمجتمع أو التأسيس لـ "عقد اجتماعي" جديد، كما تهدف إلى تحقيق تغييراتٍ مؤسسيةٍ ودستوريةٍ بعيدة المدى، وربما يظهر في حوار واحد سمات النوعين معا، حيث تتغير وظيفة الحوار على مدى دورة حياته، فقد يبدأ قصيرا ومؤقتا للتعامل مع أزمةٍ بعينها، أو الاستجابة لمطلبٍ أو مواجهة إكراه سياسي، أو ضغط خارجي، أو ملفٍّ مؤرق، أمني أو اقتصادي، ثم ينتهي إلى تغييرٍ طويل المدى، حسب مجريات الواقع، والتفاوت في قدرات الأطراف على التكيّف معها أو استثمارها. وتفضّل النخب الحاكمة النوع الأول قصير المدى لمواجهة الأزمات أو منعها، من دون إحداث أي تغيير عميق في بنية الحكم ومؤسّساته، بطبيعة الحال، فيما تطمح المجموعات المعارضة إلى النوع الثاني، طويل المدى.
ويستعرض الدليل، الملهم، التجارب المختلفة للحوارات الوطنية منذ عام 1989، في أفريقيا وأوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية، وأيضا في الوطن العربي، وهي، على اختلافها وتنوعها في التحضيرات والعمليات والتنفيذ، وأيضا المآلات، تتقاطع في عدة أشياء أهمها: العداء الشديد بين طرفي الحوار، وميراث الدم والكراهية، والذي لا ينهيه الحوار، وبما لن ينهيه أبدًا، لكنه يديره بشكلٍ يقلل خسائر الطرفين، ويمنحهم فرصة للانتقال إلى مستقبلٍ ما.
لا تأتي الحوارات الوطنية، إذن، تعبيرا عن انحياز أخلاقي "مفاجئ" لدى صاحب الدعوة، أو من يجيبه إليها، إنما هي المصالح السياسية. وأيا كانت الأسباب والنيات، فإن الحوار، في ذاته، فرصة وبديل، فرصة لتحريك المشهد، ومن ثم تغييره، أو تخفيفه، وبديل عن العنف المحض، في الخطابات والممارسات، ومن يدري؟