الحلقة الإيرانية المفقودة في اغتيال هنيّة
اغتيال رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، الأسبوع الماضي في العاصمة الإيرانية، يُمثّل ضربةً قاسيةً للحركة، وللمقاومة الفلسطينية بوجه عام، خاصّة أنّه جاء في توقيت حرجٍ للغاية في الصعيدين، الميداني والعسكري، في قطاع غزّة. ويثير ما حدث أسئلةً تتعلق تحديداً بمسؤولية النظام الإيراني عن واقعة الاغتيال، التي خلطت الأوراق، وأعادت المفاوضات بين إسرائيل و"حماس" بشأن وقف إطلاق النار إلى مربّع الصفر.
يتحمّل النظام في إيران قسطاً غير يسير من المسؤولية في اغتيال هنيّة، على اعتبار موقع الرجل داخل الحركة ومنظومة المقاومة، والمنعطف الذي تمرّ منه الحرب في غزّة، وبلوغَ التوحّش الإسرائيلي نقطة اللاعودة... لذلك كلّه، كان يُفترَض أن توفّر طهران الحماية اللازمة لضيفها، وأن تكون حريصةً على ألا تترك ثغرةً يمكن أن يمرّ منها الموساد الإسرائيلي، وهو المشهود له بباعه الطويل في استهداف قادة المقاومة الفلسطينية ورموزها في مدار تاريخ الصراع. وإذا كان من المُستبعَد أن تكون القيادة الإيرانية متورِّطةً في واقعة الاغتيال، فالمرجّح أن اختراقاً ما حدث في أحد مستويات الدائرة الأمنية المُكلّفة حماية هنيّة، إبّان إقامته في العاصمة الإيرانية.
ضمن هذا السياق، أوردت صحيفة نيويورك تايمز أنّ اغتيال إسماعيل هنيّة نجمَ عن عبوة ناسفة زرعت في الغرفة، التي قضى فيها ليلته الأخيرة قبل حوالي شهرين، فُجّرت من بُعد. تحتمل هذه الرواية وجهين: أولهما أنّها محكومة بالحرب النفسية والإعلامية التي تشنّها جهات أميركية وصهيونية ضدّ إيران على خلفية برنامجها النووي، ونفوذها السياسي والمذهبي المعلوم في الإقليم، بما يعنيه ذلك من سعي الصحيفة، وطيفٍ واسع من الإعلام الأميركي والغربي، إلى رمي الكرة في ملعب النظام الإيراني، لإرباكه وكشف ضعفه الاستخباراتي، وتعويم تبعات الواقعة بما يُضاعف تكاليفها المختلفة بالنسبة إليه داخلياً وإقليمياً، ومن ثمّ التشكيك فيما يُروّجه من دعمه حركاتِ المقاومة في المنطقة، في وقتٍ عجز عن تأمين أحد قادة هذه المقاومة حلَّ ضيفاً على إيران، للمشاركة في مراسم تنصيب رئيسها الجديد.
الوجه الثاني لرواية الصحيفة الأميركية أنّ ما أوردته قد يكون صحيحاً، وهو ما لا يُشكّل اختراقاً لمؤسّسات الدولة والحكومة في إيران فقط، بل يثير أيضاً أسئلةً بشأن المنظومة الأمنية والاستخباراتية الإيرانية، ووظائفها، وآليات اشتغالها، وولاءات أجهزتها المختلفة، وموقعها من التجاذبات التي يعرفها النظام بين جناحيه المحافظ والإصلاحي. ولا تزال واقعة تحطّم المروحية، التي كانت تُقلّ الرئيس السابق إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللّهيان، ومسؤولين آخرين، في 19 مايو/ أيّار الفائت، تثير أكثر من سؤالٍ بشأن حيثيّاتها، وإن لا يُستَبعَد أن الحادث بسبب سوء أحوال الطقس أو عطلٍ تقني، علماً أن المُتعارف عليه في مجالَي الأمن والاستخبارات أنّ تأمين حركة رؤساء الدول والحكومات (وضيوفها أيضاً) يتطلّب فِرَقـاً أمنيةً متخصّصةً، على درجة عالية من الكفاءة والحرفية.
في المقابل، كذّبت طهران ما أوردته ''نيويورك تايمز''، وأكّدت أن اغتيال هنيّة جرى من خلال مقذوفة أُطلقت من الجو باتجاه الغرفة التي كان ينام فيها هنيّة (وليس المبنى)، ما يعني، في حالة صحّة هذه الرواية، أنّ الجهة التي نفّذت عملية الاغتيال كانت تحوز معلوماتٍ دقيقة للغاية عن المكان الذي سيقيم فيه الرجل، وهو أمر يتطلّب اختراقاً مُتقدّماً للمنظومة الأمنية والاستخباراتية الإيرانية. هذا فضلاً عن الرسالة السياسية الدالّة التي ينطوي عليها الاختراق، والموجَّهة تحديداً إلى حلفاء إيران ووكلائها في الإقليم؛ مفادها أنَ إيران عاجزةٌ عن حماية ضيوفها، وبالتالي فالتوسّل بغطائها السياسي والمذهبي يَنِمُّ عن سذاجةٍ وسوء تقدير باديَين.
وضعت واقعة اغتيال إسماعيل هنيّة إيرانَ في حرجٍ بالغٍ أمام حلفائها وخصومها على حدّ سواء، ولم تعد مطالبةً بتقديم الدعم السياسي والعسكري واللوجستي لحركات المقاومة في الإقليم فقط، بقدر ما أضحت مطالبةً كذلك بإثبات صكّ براءتها من دماء الشهيد إسماعيل هنيّة، الذي قضى غدراً في غرفة داخل مبنى مكشوف في عاصمتها.