الحكومة الأردنية وأزمة التعامل مع الجمهور
يتصاعد التوتر في الأردن، فثمّة شعور عام بغياب أثر حكومة بشر الخصاونة التي تواجه تحدّيات كثيرة، أهمها أزمة كورونا وتداعياتها، وخصوصا على الاقتصاد، يحدث هذا في ظل حديث حكومي محفوف بالقلق من نمو أصوات المعارضة الخارجية، وتعامل الجمهور معها، وهي حالة تتعاظم، وسط محاولاتٍ دؤوبةٍ للحكومة لملاحقة الجمهور ونيل ثقته، كي لا يفلت من قبضتها، ويصبح مرتهناً لأصوات الخارج التي باتت مزعجة، وتأتي إليها الأخبار والتسريبات بشكل مدهش.
يجري هذا كله أردنياً، وسط تفعيل نخب سياسية، عاملة ومتقاعدة، قانون الجرائم الإلكترونية، ضد منتقديهم من عامة الناس، وعبر فضاء "فيسبوك"، ما جعل هذه النخب تضيق بالنقد أو هي لا تتخيله، وترى أن على العام والخاص أن يُبجّلاها على أعمالها. إنها نخب لا تملك غير الروح السلطوية، وغالباً من يواجه منتقديه بالقانون هي تلك النخب المتحولة من اليسار إلى بطن الدولة، أو نخب ليبرالية لا طاقة لها على تحمل النقد فتلجأ إلى القانون، في حين أن نخبا بيروقراطية عتيدة كثيرة يُساء لها، وتتجاوز عن الناس.
الجمهور الأردني في مأزق إخباري ومعلوماتي، يعكس ملامح الحالة الجماهيرية والتأثير فيها
في المقابل، يتصدر الملك هذا المشهد، بالصفح والتسامح، يعفو عن مغرّر بهم بمحاولة "الفتنة" المعلن عنها في الثالث من الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، ويقرّر إخلاء سبيلهم مع ترك رؤوس الفتنة. ويهاتف فتاة أردنية فضلت والدها عليه، ويؤكد للجمهور أن التطرّف في استخدام القانون لحماية الملك ليس تدخلاً لائقاً ويسيء للبلد. في المقابل، يشنّ معارضو المنصات الخارجية انتقاداتهم على البلد والحكومة، ويحصد هؤلاء مشاهدات عالية، هو بثّ مباشر، وحديث في مختلف الملفات، وفيه محمولٌ سياسي وثقافي، للأسف، لا ينتمي للفكر السياسي ولا لأدبيات الاختلاف، ولا يوجد لدى بعضهم مبرّر للحالة التي انتهوا إليها. ولكن الثابت أن لا نار بلا رماد، وأن ثمة أخطاء وعجزا متراكما أوجد حالة النقد والشك والريبة من الخطاب الحكومي المتكرر بشأن إيجاد الحلول التي لم ينجز منها الكثير، وسط مؤشّرات مرتفعة للدين العام.
الجمهور الأردني في مأزق إخباري ومعلوماتي، يعكس ملامح الحالة الجماهيرية والتأثير فيها. وهو يؤدّي إلى جملةٍ من الاستنتاجات العلمية بشأن الحالة النفسية للجمهور المتلقي حديث المعارضات الخارجية، أو حتى المستقبل خطاب الحكومات الذي بات فارغا من أي مضمونٍ يحدث تأثيراً او نقلة نوعية في حياة الناس، فجلّ إعلانات الحكومة متصلةٌ بتدابير أزمة كورونا إخفاقاً ونجاحاً أو تبريراً، سينظر إليها الجمهور بالشك والنقد، ما يعكس ارتباكاً أو غياباً للتنسيق، ما أحال الناس، تجارا وجمهورا ونوابا وسائقي قطاع النقل إلى حالة غضب. وهنا ملاحظات بشأن المشهد الداخلي.
الفرد في الأردن أصبح أكثر عرضة للتضليل، وهو يتفاعل مع الخطاب السياسي المؤدّي إلى تنامي فجوة الثقة
أولى هذه الملاحظات تفكّك الثقة بالخطاب الإعلامي الرسمي. وثانيتها أن الدولة نمت نمواً كبيراً وراحت تراقب السلوك الإعلامي والجماهيري في ظل عدم قدرتها على معالجة الأخطاء وسيادة ضعف النخب وتآكل البيروقراطية ذات الكفاءة، وسيطرة الشركات ورجال الاعمال، وثالثاً: أن الفرد في الأردن أصبح أكثر عرضة للتضليل، وهو يتفاعل مع الخطاب السياسي المؤدّي إلى تنامي فجوة الثقة في ظل وباء كورونا، ومع ملء الفضاء العام بروح سلبية.
ما المخرج من تلك الظرفية الراهنة؟ هل كان يكفي الناس إجراء انتخاباتٍ جاءت بمجلس النواب التاسع عشر، ليحل محل الشعب في مواجهة الحكومة، وهذا هو المفترض، أم أن الطرفين غير مقنعين للناس؟ هنا يرى بعضهم أنه لا بدّ من إعادة الديمقراطية إلى مسارها الصحيح، وبقانون انتخاب جديد، وبشفافية أكبر من الحكومة بمكافحة الفساد وإيجاد حلولٍ مقبولةٍ لمشكلات البطالة والفقر، وتراجع التعليم.
إجماع حتى لدى النخب التي دافعت عن حياةٍ سياسيةٍ قابلةٍ للتطور على أن ظروف الأردن الداخلية والإقليمية غير مريحة، وأن الجدّية في الإصلاح كانت غير موجودة
ثمّة صراع اجتماعي يصعد في الأردن بين الفقر والغنى، بين الحرمان والمحسوبية. ومع أن الاختلافات المحلية في الأردن قليلة، لكن التفسيرات السلوكية باتت تتغير، ولا يمكن المساواة بين الجميع حتى في المعارضة، فهناك إجماع حتى لدى النخب التي دافعت عن حياةٍ سياسيةٍ قابلةٍ للتطور على أن ظروف الأردن الداخلية والإقليمية غير مريحة، وأن الجدّية في الإصلاح كانت غير موجودة. ويحدُث هذا كله في ظل تراجع الإعلام، موت الصحافة، غرق الكتاب باليومي، بديلاً عن صناعة الرؤى والتأثير، اعتقاد الحكومات أنها تملك التأثير، وهي غير قادرة على إنجاز مشروع ذي أثر في حياة الناس، هيمنة المواقف تجاه كل ما هو رسمي وحكومي. وهنا يستذكر الناس قصة وزارة العمل، ومبادراتها لتشغيل الشباب، وما انتهت إليه من عجز ووعود غير صادقة، وعدم قدرة على إحداث أي فعل. وهو ما يدفع الجمهور إلى الصمود منقاداً إلى حالةٍ من عدم اليقين لجدوى كل ما يصدر عن المسؤولين من وعودٍ زائفة، وهذا ما جعل الجمهور الأردني اليوم يشعر بقيمته، وبأنه غير قابل لتصديق أي شيء أو الانقياد لأطروحات الحكومات، ما يجعل الزمن الحاضر هو زمن الجمهور، وإن عبر "فيسبوك" والفضاء الاجتماعي. فهو، حسب لغة غوستاف لوبان، حين تحدّث عن الصحافة وانتهاء وسائل الإنتاج، "إن العصر الذي نحن على أعتابه سيكون في الحقيقة عصر الجماهير.."، الصادر عن جملة المعارضات بأشكال شتى.
تضافرت هذه الحالة العامة لتطبع اللاعب السياسي الجماهيري الجديد (شبكات التواصل)، بصفته منبراً للجميع، والتي تجد جمهورها الأردني وسط مجموعاتٍ عريضةٍ من الغاضبين، ومنهم المتقاعدون والشباب، والمعلمون بسبب الموقف من نقابتهم، ومربو الماشية وسائقو التاكسي وغيرهم. وهؤلاء، إذن، قطاع أبناء الدولة، من ذوي الخلفيات الريفية الذين أدمنوا على الوظيفة العامة، وتآكلت دخولهم وأرهقتهم أقساط البنوك. هم أقرب إلى البروليتاريا المدنية التي يتزايد تنظيمها وغضبها، فمن رحلوا إلى العاصمّة عمّان من خلفياتٍ ريفية يسكنونها، وكذا قصبات المدن، أو من الموجودين في نقاط ساخنة في ألوية محددة أو أحياء داخل العاصمة، وهذه مناطق جذب جماهيري، مشحونة بمحمول سياسي أيديولوجي.
بات تأثير النخب المتعلمة في الرأي والذوق العام ضئيلاً وتركت النخب العالمة والمثقفة الجمهور لناشطين شعبويين يهيجون مشاعر العامة، بأمثلة ولغة شارحة بسيطة
تسود هذه الحالة في غياب الحراك الشعبي راهنا على الأقل، في ظل قوانين الدفاع التي تحرّم الاجتماعات والتجمعات غير القانونية. وهؤلاء كانوا من أنصار الحراك، وأقرب إلى الإضرابات والمعارضة، وممارسة أشكال مختلفة من السلوك الجماهيري، المدفوع بالعاطفة الوطنية التي لا يقيدها أو يحتويها إلا روتين العمل. وقد بات هذا العمل اليوم قليلا أو شبه معطّل، خصوصا لدى موظفي القطاع العام، أو أنه عمل لا يؤدّي إلى دخلٍ يوفر الحياة الكريمة. وفي المقابل، بات تأثير النخب المتعلمة في الرأي والذوق العام ضئيلاً. لقد تركت النخب العالمة والمثقفة الجمهور لناشطين شعبويين يهيجون مشاعر العامة، بأمثلة ولغة شارحة بسيطة، في مقابل خطاب الحكومة، وإعلامها الرسمي لم يعد قادرا على التأثير.
وعلى الرغم من ذلك كله يشهد الأردن تطور لغة سياسية جديدة، يجب الوقوف عندها. وهي تُميز سلوك الجمهور، وتقوده إلى حالة اللايقين في خطاب الحكومات، وهي لغةٌ لا يمكن تغييرها إلا بحياةٍ سياسيةٍ حزبيةٍ وديمقراطيةٍ ناجزةٍ بتجاوز الحقبة الأخيرة من التراجع في المصداقية والتراجع الاقتصادي الكبير، وضعف المشاركة السياسية الفاعلة، والأهم الشعور بعدم التنسيق والانسجام في إدارة ملف أزمة كورونا، ولعل أزمة لجنة الأوبئة الوطنية، واستقالة عالمين بارزين منها، على إثر آرائهما العلمية خير مثال على ذلك.