الحدث السوري الكبير والتعلّم من تجارب الآخرين
باحث وكاتب فلسطيني ومرشح لنيل شهادة الدكتوراه. صدر له عام ٢٠١٢ كتاب بعنوان تحولات مفهوم القومية العربية، بالإضافة إلى مجموعة من المقالات المنشورة في دوريات علمية محكمة.
ثلاثة أحداث كبرى لا رابط بينها قادت إلى سقوط نظام الأسد. أولها مسيرة مقاومة الشعب السوريّ الطويلة داخل البلاد وخارجها، بما يشمل الثورة السلميّة التي قُمعت، والتمرّد المسلّح الذي شُتّت بتحويله إلى حربٍ أهليّة قبل أن يُخمَد، وجهود النشطاء السوريين في شتاتهم التي ساهمت في إطباقِ حصارٍ على النظام زعزع علاقته بقواعده بعد تطاوله على ما تبقّى في جيوبها. وتُضاف إلى ذلك مسيرةٌ موازية لا يجوز تجاهلها من مقاومة غالبية السوريين اليوميّة لا تبدأ من تهرّبهم من الخدمة العسكريّة، ولا تنتهي مع التحايل على قنوات الجباية الرسميّة التي نُظر إليها على أنها وسائل لنهب الناس. ثاني هذه الأحداث تبدّل أولويات الحليف الروسيّ بعد اندلاع الحرب في شرق أوروبا (2022)، الذي حرم النظام مزايا الهجوم الجويّ الذي كان قد أنقذه من حتمية السقوط عام 2015. وثالثها عملية طوفان الأقصى (2023) التي استغلّتها إسرائيل لاستهدافِ شبكة الحماية العسكريّة الإيرانيّة، بموازاة انتهازيّة النظام بنأيهِ بنفسه عنها. لقد أقنعت مسيرة المقاومة الطويلة على عثراتها وطُرق قمعها من لم يقتنع من السوريين بأنّهم ضحايا عصابةٍ سيطرت على مصائرهم، كما استسلم حلفاؤه بأنَّ حليفهم لم يكن سوى قشرةٍ رقيقة بلا عمق ولا قاعدة ولا مبدأ، وأنَّ كلفة إنقاذه أعلى كثيراً من كلفة انهياره.
ستدرك السلطة الجديدة السورية أنّ عليها التعامل مع تركةٍ ثقيلةٍ من الممارسات السياسيّة المتراكمة حكمت المجتمع السوريّ عقوداً
أنشأ توالي هذه الأحداث الكبرى فراغ قوّة، شجّع تنظيماً أيديولوجيّاً مسلّحاً من هامش سورية، هو هيئة تحرير الشام، على المبادرةِ بهجومٍ أُريد له أن يكون محدوداً، قبل أن تصحو بعد أقلّ من أسبوعين في القصر الجمهوري في دمشق، في أعقابِ انهيارٍ متتابعٍ للجيش السوري فاقت سرعته انهيار نظيره الأفغاني وسقوط نظام الرئيس أشرف غني (2021)، بعد أشهرٍ من رفعِ الحماية الأميركيّة عنه عقب الاتفاق مع حركة طالبان.
لا تُعدّ هذه أوّل مرّة يؤدّي فيها توالي أحداث كُبرى غير مترابطة إلى نتائج غير متوقّعة لم يقصدها فاعلون إقليميون ودوليون، كذلك فإنّها ليست المرّة الأولى التي تصبّ فيها المصادفة لصالح فاعلٍ سبّاقٍ بالمبادرة، فالمصادفات ليست غريبة على التاريخ. والغرض من نفي استثنائية الحدث السوري الكبير هو التنبيه إلى خطورة تجاهل تجارب الآخرين وأهميّة التعلّم منها. ليست الحالة السورية انقلاباً عسكرياً يسعى بعده جنرالات لاستغلال رمزية الجيش باعتباره رمزاً لوحدة الأمّة، بل هي حركة مسلّحة استسلم الجيش أمامها. وليست "الهيئة" حركة تحريرٍ وطنيّ جماهيرية مسلّحة كجبهة التحرير الوطني الجزائرية، التي هزمت الاستعمار الفرنسيّ (1962)، ولا هي حركة جماهيريّة شبه مسلّحة يقودها زعيم كحالة الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة الخميني (1979). ومع أنَّ "الهيئة" تشترك مع "جبهة التحرير" بمركزية السلاح، ومع الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة بمركزية الزعيم الذي يمثّله في حالة "الهيئة" أحمد الشرع، إلا أنّها ليست حركةً جماهيريّة، فهي لا تملك خطاباً أيديولوجياً مقبولاً داخلياً وخارجياً، بل هي تنظيمٌ مسلّحٌ ومتطرّفٌ استولى على السلطة، وحقّق شرعية لنجاحه فيما فشل فيه الآخرون.
تتبادر إلى الذهن حالة الخمير الحمر المتطرّفة في كمبوديا، بقيادة الزعيم الماويّ بول بوت، ببنيتها الأكثر تنظيماً وأيديولوجيّةً مقارنةً بالمجموعات الكمبودية النشطة في عصرها. وقد استغلّ التنظيم الماويّ المتطرّف الصراع السوفييتي - الصيني على جنوبيّ آسيا، والغضب الشعبي من القصف الأميركي الذي استهدف خطوط إمداد فيتنام الشماليّة شرق كمبوديا، للمباغتة بهجومٍ انطلاقاً من أرياف البلاد النائية استولى من خلاله على السلطة (1975). وبقية القصة معروفة، فقد أدّت لا عقلانية مشروعه الدمويّ، والتدخل العسكريّ الفيتنامي (1978-1979) إلى إسقاط نظامه عقب تورّطه بواحدة من أكثر مجازر الإبادة الجماعية ترويعاً في التاريخ الحديث.
لا زمان الخمير الحمر هو زمان هيئة تحرير الشام، ولا تملك الأخيرة حلفاء من نوع الصين الماويّة، كذلك فإنّ سورية ليست كمبوديا، ولكنَّ ذلك لا يمنع من تعلّم الدرس. تجد الحركة الأيديولوجية المسلّحة نفسها بعد سيطرتها على الحكم أمام خيارين: التمسّك بمشروعها الأيديولوجيّ وانفرادها بالحكم قلقاً من تهديد تماسكها الداخليّ، أو تعديل خطابها وتشكيل ائتلاف واسعٍ يصعب فهمه داخلياً وخارجياً بأنّه مجرد مجموعة من الدمى.
وبينما يُعتبر الخيار الأوّل في الحالة السورية "كمبودياً"، أي وصفةً للحرب الأهلية والتدخل الخارجي، يبدو الخيار الثاني أكثر واقعيةً وعقلانيّة، لكنّه يتطلّب مواجهة احتمالات الانشقاق الداخليّة ومخاطر الفوضى المترتبّة عنها، أو الغياب "المفاجئ" للشرع؛ الشخصية التوافقية التي لا تجتمع حولها الحركة المسلّحة فحسب، بل تخطو خطواتٍ ثابتة نحو استبدال مركزية "القائد" في الثقافة السياسية السورية، على أمل ألا يكون كسلفه "خالداً". كذلك يتطلّب آلية لتعريف "الائتلاف الواسع" في بلدٍ عاش نصف قرنٍ بلا تقاليد مشاركةٍ سياسيّة، ودُفن مجتمعه السياسيّ في مقابر جماعيّة، وفشلت "معارضاته" المنفيّة الأكثر اعتدالاً بالتوحّد في معارضةٍ موحدة.
ثمّة ما يدعو إلى التفاؤل بأن المجموعة الحاكمة الجديدة تسعى للخيار الثاني، لا بسبب طمأناتها وانضباط مقاتليها، التي لا ضمانة لاستمرارها من دون مسار عدالةٍ انتقاليّة ومن دون دعمٍ دوليّ وإقليميّ، بل بسبب لا واقعية الخيار الأوّل. ولا تقتصر اللاواقعية على حاجة السلطة الجديدة إلى تجنيد الدعم الدولي لرفع العقوبات، وإعادة الإعمار، وترميم الاقتصاد، ولمّ شمل نصف الشعب المشرّد، كذلك لا تنحصر بقلّة مقاتلي الحركات المسلّحة المختلفة والشكّ باحترافيتها، بل يتعلّق الأمر أيضاً بدولةٍ بنصف مليون موظف يسعى حُكّام سورية الجدد لإقناعهم بالعودة إلى مواقعهم، وبمؤشّراتٍ على تطييف نظام الأسد مناصبها القيادية على امتداد بيروقراطيتها.
هيئة تحرير الشام ليست حركةً جماهيريّة، فلا تملك خطاباً أيديولوجياً مقبولاً داخلياً وخارجياً، وحقّقت شرعية حين نجحت في ما فشل فيه الآخرون
تعلّمنا تجارب الآخرين أنَّ قلّةً قليلةً من تجارب الانتقال إلى أنظمةٍ جديدة نجحت من دون الاعتماد على إرث الأنظمة القديمة وممارساتها. وقد حاولت الدول الغربيّة المنتصرة في الحرب العالميّة الثانية الاستغناء عن الموظّفين النازيين في إدارة ألمانيا الغربية، قبل أن تتراجع عن ذلك سريعاً لأسبابٍ عملية. وفي غالبية جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، حكم رؤساء الجمهوريات الجدد اعتماداً على الشبكات نفسها التي حُكم عبرها في المرحلة الشيوعية قبل إعادة هيكلتها تدريجياً، بينما انتهى أولئك الذين قرّروا إقصاءها، إمّا إلى الفشل فوراً والسقوط وعودة القديم، كحالة أوّل رؤساء أذربيجان بعد استقلالها، أبو الفضل إلجي بيك الذي سلّم مقاليد السلطة لحاكمها الفعليّ السابق في المرحلة الشيوعيّة حيدر عالييف (1993)، وإمّا إلى الحرب الأهلية كحالة علي رحمان الذي تورّط في حربٍ أهليّة (1994-1997) بمئة ألف ضحيّة قبل أن يعود إلى التوافق مع المنظمات التي قاتلها، وإمّا إلى الحرب الخارجية، والحالة الأوكرانية لا تزال ماثلةً أمامنا.
عاجلًا أو آجلًا، ستدرك السلطة الجديدة السورية أنّها تحكم نظاماً كانت تقاتله، وسيتعيّن عليها التعامل مع تركةٍ ثقيلةٍ من الممارسات السياسيّة المتراكمة التي حُكمَ عبرها المجتمع السوريّ لعقود، لا تبدأ مع مركزية "القائد الخالد" ولا تنتهي مع سياسات التطييف، ولا السرقة والإذلال والتعذيب. ويخدع نفسه ذلك الذي يعتقد بسهولة شطب تلك الممارسات بين ليلةٍ وضحاها، وواهمٌ من يظنّ بسرعةِ صناعة ممارساتٍ سياسيّةٍ بديلة.
باحث وكاتب فلسطيني ومرشح لنيل شهادة الدكتوراه. صدر له عام ٢٠١٢ كتاب بعنوان تحولات مفهوم القومية العربية، بالإضافة إلى مجموعة من المقالات المنشورة في دوريات علمية محكمة.