الحاجة إلى إنقاذ تونس قبل الكارثة

08 فبراير 2023
+ الخط -

للمرّة الثانية على التوالي، وفي ظرف أقل من شهرين، امتنع نحو 89% من التونسيين عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، تعبيرا عن يأسهم من العملية الانتخابية برمتها. وقبل ذلك، قاطع 70% منهم الاستفتاء على الدستور الذي وضعه الرئيس قيس سعيّد على مقاس طموحاته السلطوية، وعرضه على اقتراع عام قاطعته أغلبية الشعب. في كل هذه الاستفتاءات الشعبية، كان رأي أغلبية التونسيين المقاطعة أو اللامبالاة. ومع ذلك، يستمر الرئيس في منصبه، وتستمرّ البلاد في التدهور والسقوط نحو الهاوية التي اختارها لها رئيس يخبط خبط عشواء منذ أن حملته رياح الشعبوية إلى سدّة الحكم في بلاد "ثورة الياسمين". ليست مقاطعة الأغلبية الساحقة للشعب التونسي الانتخابات فقط نتاج يأس الناس من تردّي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لبلادٍ دخلت مرحلة السقوط الحر نحو الهاوية، وإنما يجب أن يكون ناقوس خطر ينذر بما آتٍ، ويحثّ الداخل كما الخارج على إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل وقوع الكارثة.

المرحلة الحالية التي تمرّ بها تونس، هي مرحلة ما قبل الفوضى العامة التي تسبق الانهيار التام للدولة، وهي نتاج ثلاث سنوات ونيف من حكم قيس سعيّد الفوضوي والشعبوي، فمنذ توليه سدّة الحكم كان واضحا أن الرجل الذي جاء إلى قصر قرطاج بدون حزب ولا برنامج سياسي، معتمد على خطاب شعبوي بائس يقود بلاده نحو المجهول. وهذا المجهول ليس غريبا على دورات الثورات التي شهدها التاريخ، وكما تقول المقولة "من لا يعرف التاريخ محكوم عليه بتكرار الأخطاء التى وقعت فيه". والحال أن ما يحدث في تونس اليوم سبق أن حدث في فجر الثورة الفرنسية، مع ظهور أول حركة شعبوية جسّدها أول مرة وزير الحرب إبّان الثورة الفرنسية، الجنرال الفرنسي جورج إرنست بوولنجر (1837-1891)، الذي توصف حركته بـ "البولنجية"، وهي حركة استفادت من الهزيمة ضد ألمانيا، ومن إحباطات التيار المحافظ الفرنسي، ومن الفوضى التي سادت بعد الثورة، وسرعان ما التفّت حولها القوى الرجعية لتنظيم نفسها، والدعوة إلى تعديل دستور الثورة، والتمهيد للعودة إلى النظام الملكي. لكن زعيم هذه الحركة سرعان ما سيرى في نفسه زعيما، وليس مجرّد مُصلح كما أراده من كانوا يدعمونه، وسيذكره التاريخ، الذي يكاد يجهل دوره اليوم، بأنه كان مجرّد مرحلة عبور عابرة مهدت لعودة النظام الذي جاءت الثورة لتغييره. وليس غريبا أن مفهوم الشعبوية كما هو متعارف عليه اليوم، في أدبيات العلوم السياسية، سيظهر أول مرّة بعد الثورة الفرنسية مجسّدا في هذه الحركة "البولنجية". ومنذ ذلك التاريخ، أصبح هذا المفهوم رديفا لكل أصحاب الشعارات الذين يدّعون أن مصدر شرعيتهم هو الشعب، يتمثلون سيادته، ويتحدّثون باسمه ويدافعون عن مصالحه. وعلى غرار ما كان يقول الملك الفرنسي لويس الرابع عشر "الدولة أنا، وأنا الدولة"، فإن لسان الحكام الشعبويين يقول "الشعب أنا، وأنا هو الشعب".

تونس في مرحلة ما قبل الفوضى العامة التي تسبق الانهيار التام للدولة

وقيس سعيّد هو نسخة رديئة من الجنرال الفرنسي بوولنجر، استفاد مثله من غضب الناس من متاهات النقاشات السياسية التي أدخلت النخب السياسية إليها البلاد بعد الثورة، ومن تردّي الوضعين، الاجتماعي والاقتصادي، للبلاد، وخلال فترة مّا جسد الأمل، في نظر جمهوره، في العودة إلى التطلعات الشعبية للثورة التي خانتها النخبة الحاكمة الفاسدة وغير الكفؤة. لكن بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على وصوله إلى السلطة، أصيب التونسيون بخيبة أمل مرّة أخرى، وسئموا من الخطابات الشعبوية لرئيسٍ لا يجيد سوى انتقاد خصومه، ليس له مشروع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي واضح، مجرّد فقاعات خطابية فارغة، أثبتت عجزها التام عن إيجاد حلولٍ لأزمات البلاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو حاليا يقودها نحو إفلاس محقّق.

نجح قيس سعيّد في قتل السياسة، وهو الآن يقتل الأمل في نفوس التونسيين، من خلال نوع من التفكيك المنهجي والبطيء والصامت لكل الأسس التي وضعت ما بعد الثورة، للعودة بالبلاد إلى مرحلة أكثر سوءا مما كانت عليه حتى في عهد الديكتاتور زين العابدين بن علي. وما يجعل الوضع مقلقا في بلدٍ يوشك على الانهيار هو التمزّق الذي يشتّت أحزاب المعارضة، رغم انضمام بعضها إلى لجنة الخلاص الوطني التي ما زالت لا تجد تعاطفا كبيرا داخل الشارع مع تحرّكاتها. وفي المقابل، تم تجريف المجتمع المدني النشط الذي لعب دورا كبيرا بعد الثورة في تقريب وجهات النظر بين التيارات السياسية داخل المجلس التأسيسي الذي أعطى تونس دستور 2014، وحتى الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي كان يعتبر بمثابة المرجعية في حسم المواقف المتردّدة، أفقده اصطفاف قيادته الحالية خلف شعبوية قيس سعيّد، عند بداية انقلابه، تعاطف كثيرين من أنصاره، وأمامه اليوم طريق طويلة لاستعادة تواصله مع الناس ومصداقيته عند أتباعه.

وعلى المستوى الخارجي، فإن الحرب في أوكرانيا، وما خلّفته تداعياتها من أزمات عالمية متعدّدة الأوجه، جعلت مراقبين غربيين كثيرين لا يولون اهتماما كبيرا لما يجري في تونس، وزادت التوترات الإقليمية بين المغرب والجزائر والحرب الأهلية في ليبيا، والوضع الاقتصادي المتردّي في مصر، والتقهقر الفرنسي في القارّة الفرنسية، من إهمال الناس ما يجري في تونس، حتى يستيقظ الجميع ذات صباح على هول الكارثة التي يقود إليها قيس سعيّد بلاده بإصرار عنيد وبلاهة تامة.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).