الجوع سيد موائد الإفطار في دمشق

17 ابريل 2021
+ الخط -

قالت المتحدثة باسم برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، جيسيكا لوسون، لوكالة أوروبا برس للأنباء، إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية، بمختلف أنواعها، في سورية، وصل إلى أربعة عشر ضعفاً، بالمقارنة مع أسعارها قبل أزمة البلاد. كما ارتفع سعر السلة الغذائية التي يعتمدها البرنامج بنسبة 107%، وهذا هو أعلى ما سجل طوال عمل المنظمة في كل العالم.

وجاء في رؤيا يوحنا أن الأربعة القاهرين للبشرية هم الوباء والحرب والجوع والموت. وسورية التي مر بها القديس يوحنا، ونشر رسالة السلام، ودفن جثمانه فيها في الجامع الأموي، تعيش حاليا هذه البنود القاهرة بكل جدارة، وبكل قهر ربما لم يعرفه التاريخ الحديث في مكان في العالم. ويأتي رمضان، شهر الخير والبركة والحب والسلام، شهر الصوم عن الطعام والشراب، وعن الأذية والنميمة والغش، شهر التذكير بإنسانية الإنسان، والصوم عن الشهوات وعن مغريات الجسد، يأتي إلى السوريين ليجعل مصائبهم أوضح وأشدّ وجعا، فالجائع الذي لا يجد الخبز طوال أشهر السنة كيف يصوم؟ وهل يمكن أن يكون صوم شهر رمضان، الشهر الذي يحسّن شكل الحياة وشكل العلاقات الاجتماعية، صوما عن الحياة، وهو جوع يعلي مستويات الجريمة إلى درجة لم تعرفها سورية منذ وجدت.

تفيد التقارير بأن أسعار المواد الغذائية في أسواق دمشق سجلت ارتفاعاً خيالياً مع اقتراب شهر رمضان، فسعر الأرز والمعلبات ارتفع بنسبة 33%، كما ارتفع سعر الزيوت والسكر بنسبة 18%. وسجل كيلو المعكرونة 3400 ليرة سورية، وسعر ليتر واحد من الزيوت النباتية 9500 ليرة سورية، وسعر ثماني كيلوغرامات من السمنة 80 ألف ليرة، علما أن هذه المواد متطلبات أساسية لطعام فقير بالفيتامينات والبروتينات والمعادن، وحتى السكريات اللازمة لوجبة الإفطار، ليستعيد جسم الصائم حيويته. أما عن أسعار الفواكه فحدث ولا حرج، فكيلو البرتقال بأربعة آلاف ليرة، والحبة منه بألفين وكذلك سعر الحبة من التفاح والموز. وإذا ما جئنا إلى الحلويات التي كانت من أهم ميزات موائد رمضان السورية وأشهاها، فسعرها حلق فوق الغيوم، حيث وصل كيلو المبرومة التي تشتهر بها سورية إلى مائة ألف ليرة سورية، أي ما يزيد على راتب أستاذ في الجامعة، ووصل سعر كيلو الشوكولاتة الفاخرة التي باتت من المنسيات إلى ما يساوي ضعفي راتب أستاذ في جامعة دمشق.

وحدها العتمة هي ضوء الليالي المظلمة، ووحده النقص الحاد في الدواء بأسعاره الصاروخية، هو المتوفر في الصيدليات

اليوم، وبعد عشر سنوات من أول مظاهرة سورية قالت "الموت ولا المذلة"، وقالت "الشعب السوري مو جوعان، الشعب السوري بدو كرامة"، اليوم وحده الجوع هو الطعام الرخيص الثمن، والمتوفر للجميع في سورية الأسد، هو سيد موائد رمضان من دون منازع.

وحده انقطاع المواد النفطية هو الطاقة التي تسير عليها مركبات البلد، ووحدها العتمة هي ضوء الليالي المظلمة، ووحده النقص الحاد في الدواء بأسعاره الصاروخية، هو المتوفر في الصيدليات، والنقص المرعب لأجهزة التنفس الصناعي، وهي طريقة المعالجة لمرض فيروس كورونا الذي يرقص في بيوت السوريين، مع الخوف والجوع وارتفاع الحرارة المصاحب للإصابة، وارتفاع الأسعار المصاحب لكلمة سيادة الرئيس العصماء والبكماء والخرساء التي لا تفهم منها شيئا.

السوري أول من زرع القمح على هذا الكوكب، وأول من حصده، ومن طحنه، وخبزه، يموت من الجوع، فقط لأنه تجرّأ يوما على الحلم ببلد تسوده المواطنة والديمقراطية، بلد لا تحكمه أجهزة المخابرات، ولا تبتلعه العائلة الأسدية.

بعد عشر سنوات من حرب واعتقال وموت ورعب وجوع وتشريد، يتبجح الأسد بسورية الجديدة المتجانسة، ويصمت مؤيدوه وهم يموتون من الفقر

واليوم وبعد عشر سنوات من حرب واعتقال وموت ورعب وجوع وتشريد، يتبجح الأسد بسورية الجديدة المتجانسة، ويصمت مؤيدوه وهم يموتون من الفقر. يصمت الجميع بعد كل هذا الخذلان العالمي، ولا أحد يستطيع أن يفهم كيف يمكن أن يبقوا صامتين، ولا أحد يستطيع أن يتوقع مع أيٍّ من مدافع رمضان الكريم الذي نعيشه الآن سينفجر السوري مرة ثانية، ويخرج للشارع "شاهرا سيفه".

وكما نهاية رواية غسان كنفاني "رجال تحت الشمس" عن ثلاثة رجال فلسطينيين يريدون أن يعبروا بشكل غير نظامي إلى الكويت، من أجل لقمة العيش التي عزّت عليهم، ويقبلون أن ينقلهم المهرّب داخل خزّان صهريج للماء، .. تنتهي الرواية بصرخة السائق الذي يعود فيجدهم قد ماتوا "لماذا لم تقرعوا جدار الخزان؟".

نعم لماذا لا يخرج اليوم السوريون، كل السوريين، دفعة واحدة، وقد تماثلوا الآن جميعهم، موالاة ومعارضة، في مأدبة الجوع الشهي على مائدة الإفطار؟ لماذا لا يخرجون كلهم، نساء ورجالا وأطفالا وشيوخا؟ كي يقرعوا جدار هذا الخزان ألف مرة؟ فلا يمكن أن يستمر خوفهم من أشد الأنظمة قمعا ورعبا من أن يجعلهم يموتون من الجوع بصمت. .. متى سيقرع السوريون جدار هذا العالم؟

E928EA8B-DC47-4385-9F66-8409C3A306CB
E928EA8B-DC47-4385-9F66-8409C3A306CB
ميسون شقير

كاتبة وإعلامية سورية

ميسون شقير