الثورة لا تأتي محمولة جواً
"نحن لن ندعم مصر لا تتحرك نحو الديمقراطية. مساعداتنا سترتبط بما هو أفضل لمصر وللعالم وللمنطقة". "العلاقة مع الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك كانت في صالح سياستنا الخارجية، لكنها لم تكن في صالح المصري العادي .. هذه الأيام ولّت". كما أن "الربيع العربي أثّر على الولايات المتحدة وسياستها في الشرق الأوسط".
ما سبق ليس كلامًا صادرًا عن إدارة جو بايدن الجديدة، الديمقراطية، والتي يتحمّس لها قطاع من السياسيين، وغير السياسيين، المعارضين، بل هو كلام جمهوري عتيد وأحد المحاربين حتى آخر طلقة في معسكر دونالد ترامب للفوز بفترة رئاسية ثانية.
هو كلام النائب الجمهوري، ليندسي غراهام، حين جاء صحبة زميله الراجل جون ماكين إلى القاهرة، عقب الانقلاب العسكري في صيف العام 2013، بحثًا عن حل للمعضلة المصرية، وبحسب تعبيره "لتجنب "أسوأ كابوس"، وهو أن تتحول مصر إلى "دولة فاشلة".
كان أول ما شدد عليه الثنائي (ماكين - غراهام) هو حتمية الإفراج عن المعتقلين كمقدمة للحوار، لأنه "لا يمكن الحديث مع مسجون .. هذه ليست طريقة للتحول السياسي". الكلام جميل ومحترم ومرتب، بل إنه أكثر جمالًا واحترامًا وترتيبًا مما تسمعه وتقرأه من تصريحاتٍ على لسان نواب وسياسيين من دائرة بايدن الديمقراطية بشأن الحالة المصرية الآن. لكنه يبقى كلامًا وملصقات فخيمة للدعاية للمنتجات الديمقراطية الأميركية، من دون أن يكون متاحًا لأحد خارج الـ USA باقتنائها واستعمالها، إذ عادة ما تفضل الإدارات الأميركية التعاون مع من يحاربون هذه المنتجات في بلدانهم، كما هو الحال مع عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد، بدليل أن حصيلة ذلك "المانفستو" الأميركي من 2013 وحتى 2021 (ثلاثة أعوام أوباماوية وخمسة ترامبية) هي مزيد من الدعم والتمكين للجنرال عبد الفتاح السيسي في السلطة.
قلت، في مقال يوم الجمعة الماضي، إن عاقلًا لا يمكنه أن يكون ضد أي جهد للتخلص من حالة قمعية استبدادية تخنق مصر والمصريين، لكن بحسابات العقل لا يمكن الوقوف مع تحرّكات ترهن مصير الأزمة المصرية بإرادة جو بايدن وإدارته، لأن في ذلك تغافلًا عن تجربة السنوات الماضية، وإهدارًا للجوهر الوطني والأخلاقي لنضال الثورة المصرية، باعتبارها كانت، أيضًا، ثورةً على التبعية السياسية الكاملة للمشروع الأميركي الصهيوني.
في ذلك وردتني ردود مختلفة، أتوقف عند نوعين منها، تنظران إلى المسألة بمعيار براغماتي صرف، الأول يطرحه المذيع في "الجزيرة"، أيمن عزام، وفحواه "أليست الثورة فعلًا سياسيًا؟! فلماذا لا تستخدم كل أدوات السياسة بما يتفق مع فكرتها؟ أليست الثورة لتغيير النظام؟ فماذا لو أصبحت هي النظام؟ أفلا تتعامل مع محاور إقليمية ودولية؟ قل من حرَم أدوات اللعبة على الثورة التي هي شرف الشعب بينما يستحلها الاستبداد الذي يستبيح كرامة الوطن؟".
وكان ردي بوضوح أنه منذ أفلاطون وأرسطو، ليس هناك ما يدعم فرضية أن الثورة فعل سياسي، بل لا أبالغ لو قلت إن مقتل الثورات يكون في استدراجها إلى العمل السياسي، قبل أن تكتمل، ولنا في ثورة يناير المثل والدرس، حين تركنا الميادين مبكرًا.
ناهيك عن أنه ليس أخلاقيًا ولا ثوريًا أن يكون معيار الحكم على صحة الفعل وجدارة السلوك ومشروعية استخدام أدوات اللعب أنها نجحت مع الاستبداد، ومن ثم لا مانع من أن تلعب بها الثورة، ذلك أن الثورة، أي ثورة، هي بالأساس فكرة أخلاقية، كما أن العمل الثوري ينطلق من جوهر الفكرة الأخلاقية، فيما للسياسة والعمل السياسي محدّدات أخرى، وأدوات مغايرة، فتعتمد مبدأ الصفقة والمقايضة.
كما أن الكل يعلم أن الورقة الأهم في لعبة نظام الاستبداد الحالي كانت الورقة الإسرائيلية التي اعتمد عليها في الوصول إلى السلطة والبقاء بها، فهل يمكن أن تمشي الثورة على هذا الطريق؟
ثمّة ردود أخرى تذهب إلى أن الإدارة الأميركية الجديدة وعدت بأن تضع حدًا لانتهاكات حقوق الإنسان، فلماذا لا تتعاون كيانات وشخصيات محسوبة على الثورة المصرية معها لتحقيق هذه الغاية.
وظني، أيضًا، أن المعارضة الثورية لا تتعاون مع حكوماتٍ ونظم حكم، خصوصًا التي عرف عنها أنها لم تكن متحمّسة لتغيير ثوري عندنا .. قد يكون مقبولًا التواصل مع معارضاتٍ أخرى أو مؤسسات شعبية أو هيئات دولية، أما تعاون مع حكومات فهذا يعني أنها تنافس السلطة التي تؤمن نفسها بإعلان التبعية لهذه الحكومات، لكي تزيحها وتكون بديلًا عنها، وهنا تتحول إلى سلطة مكسورة العين، لو نجحت في أن تحل محل السلطة القديمة بمعاونة سلطة دولةٍ أخرى.
وأتذكر أن هذا الجدل قائم منذ تسلم دونالد ترامب منصبه، ولم تتحقّق نتائج تذكر من الطرق على أبواب الكونغرس والبيت الأبيض، ولم تستفد الثورة ولا المعارضة، بل استفاد نظام السيسي، بكل أسف، حين استسلمت الثورة/ المعارضة لقواعد اللعبة والأدوات التي يستخدمها، فلا هي احتفظت بثوريتها، ولا نجحت في أن تكون بديلًا مقنعًا لمن بيديهم كل الخيوط.
الشاهد أن استمرار هذا التفكير يجعلنا لا نغادر ما وصفتها قبل خمس سنوات بأنها "لحظة صناعة البدائل، وتجارتها في محلات العطارة والأكشاك المتنقلة، ومن أسفٍ أنها كلها تدور حسب رغبات الخارج وتصوراته، ليأتي البديل تابعا، ومدينا بالفضل لاعتبارات النفوذ الدولي والعبث الإقليمي".
باختصار، ومجدّدًا، الثورة لا تأتي محمولة جوًا.