التيار الصدري والشارع العراقي
حكاية التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر هي الشغل الشاغل للعبة السياسة وطبيعة نظام الحكم القائم في العراق منذ ما يناهز العقدين، ذاك أن هذا التيار مثل الطبقة الفقيرة؛ وهي الغالبية العراقية حالياً، وتبنّى الصدر في خطابه الإعلامي والديني مفرداتٍ تعنى بالإصلاح والتخلص من الفساد وإقصاء الفاسدين من سدّة حكم البلاد ورفض الهيمنة والتدخل الأجنبي في إدارة شؤون البلد.
ولعل متابعة التداخلات المباشرة لمقتدى الصدر في أهم حالات التظاهرات والاعتصامات الشعبية العراقية منذ عام 2016، على أقرب تقدير، تعطي انطباعاً عاماً مفادُه امتصاص زخم الشارع لأسباب عديدة، تُساق بحسب قرب المتابع للتيار الصدري أو تناقضه معه، لكن في النتيجة النهائية يسلّم المتظاهرون رايتهم، طوعاً أو كأمرٍ واقع، للصدر الذي زاد، في كل مرة، حجوم الضغوط على أرباب العملية السياسية، وتحديداً على قوى محدّدة ائتلفت في ما يسمّى "الإطار التنسيقي" حتى بلوغ القرار السياسي العراقي تحديد العاشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2021 لخوض الانتخابات لانتخاب مجلس جديد للنواب، ومن خلاله وزارة جديدة كاملة الصلاحيات، ولفترة كاملة وفق مواد الدستور العراقي ومنهجيته.
لقد أثبت العراقيون، بالرغم من عزوف حوالى 80% عن المشاركة في الانتخابات، أنهم رافضون، إلى حدود واضحة، الوجوه التي حكمت البلاد أو تحكّمت بمقاديره، فكانت جماهير التيار الصدري أكثر المشاركين في هذه الانتخابات، فيما تراجع مريدو الأحزاب والكتل المنضوية في الإطار التنسيقي بشكل خطير، باستثناء حزب الدعوة الذي شارك أعضاؤه بحسب توجيهات الحزب، ليكون أكثر القوى حصولاً على الأصوات، قياساً مع بقية قوى "الإطار".
سحب الصدر نوابه الـ73 من مجلس النواب، فقدّم بذلك فرصة للإطاريين لدفع العدد نفسه من الفاشلين في الانتخابات
فاز الصدر وتياره، وشكّل مع محمد الحلبوسي ومسعود البارزاني، تحالفاً من أجل تشكيل حكومة أغلبية، فيما لجأ "الإطار" إلى استثمار الفقرة المثيرة للجدل في تفسير الكتلة الأكبر في مجلس النواب، وبعد أخذٍ وجذب، قرّر الصدر سحب نوابه الـ73 من مجلس النواب، فقدّم بذلك فرصة للإطاريين لدفع العدد نفسه من الفاشلين في الانتخابات، من حيث عدد الأصوات ليحلوا محل الصدريين المنسحبين، وهو أمرٌ أغضب الصدر، واعتبره مخالفاً للقيم الانتخابية. وبذلك، قرّر الصدر التوجّه إلى جمهوره وكل المتعاطفين من المعوزين والمضطهدين والعاطلين من العمل، والحانقين على مجمل العملية السياسية التي لم تقدّم لهم أي مستوى من الخدمات والكرامة الاجتماعية والوطنية.
نجح الصدر في كسب قلوب مئات الآلاف من العراقيين، بمختلف ولاءاتهم ودياناتهم، ومارس جسّ النبض الأول من خلال إقامة صلاة الجمعة الموحدة في مدينة الصدر في 15 الشهر الماضي (يوليو/ تموز). وقد أشادت وسائل إعلام دولية كثيرة بهذا النجاح التعبوي، والأهم أنها شجّعت الصدر على تنفيذ الخطوة اللاحقة، وهي دعوة جماهيره إلى التوجّه إلى المنطقة الخضراء، بنيّة اقتحامها الذي حصل في 30 يوليو/ تموز، وهي خطوة مفصلية بالنسبة إلى العراقيين، حيث ظنّوا، وهم في حالة من الإحباط واليأس من مستقبلهم ومستقبل بلادهم، أن طريق التغيير في العراق قد بدأ، وأن الخطوة المقبلة ستكون إعلان سقوط العملية السياسية وتشكيل حكومة طوارئ، تمهيداً لإجراء انتخابات عامة (رئاسية). ولكن الأمور لم تجر وفق أهواء (وتمنيات) الجمهور المتعاطف، والمشارك مع عملية اقتحام المنطقة الخضراء، وتعاقبت الأيام وهذا الجمهور يفترش الأرض أمام مبنى مجلس النواب في ظروف جوية بالغة القسوة، فقد بلغت درجات الحرارة 48 درجة مئوية، إضافة إلى ما يحتاجه عشرات الآلاف من المعتصمين من خدمات إنسانية غير متوافرة في حدائق المنطقة الخضراء.
لماذا فوّت مقتدى الصدر تعاطف الشعب العراقي وثقته بتحرّكه العملي نحو التغيير وشدة تمسّكه باجتثاث الفاسدين؟
تحرك "الإطار التنسيقي" بقوة ضد حركة مقتدى الصدر، وهدّد السلم الوطني في العراق، من خلال إطلاق الدعوات إلى جماهيره بالتظاهر قبالة أبواب المنطقة الخضراء وسط تغريدات مباشرة الأهداف لزعيم التيار الصدري، تقضي بحل مجلس النواب وتحديد موعد جديد لانتخابات عراقية عامة، قابلتها تصريحات وتغريدات لزعيم حزب الدعوة، نوري المالكي. وفي ظل لا مبالاة حكومية تجاه مجمل القضية، خرج هادي العامري، زعيم تحالف "الفتح" بمحاولةٍ نالت، على ما يبدو، قبولاً أولياً من كل أطراف النزاع، تقضي بجلوس الجميع للحوار في ما يذهب إليه كل طرف.
السؤال الذي يسأله كل العراقيين: لماذا فوّت مقتدى الصدر تعاطف الشعب العراقي وثقته بتحرّكه العملي نحو التغيير وشدّة تمسّكه باجتثاث الفاسدين؟ وهل الثورات يمكن أن تتحقق بـ"التسويف"، فيما يتمسّك الآخرون بما لديهم من إمكانات وقدرات، وفّرتها لهم سطوتهم على مراكز القرار بكل أنواعه في العراق؟ ثم هل ستسمح دولة إقليمية داعمة لقوى "الإطار" سياسياً ومليشياوياً بأن يحقق الشعب العراقي مبتغاه في تشكيل نظام سياسي جديد، يعتمد العدالة والاستثمار في بناء الطاقات وتكريس الهوية الوطنية؟ وأخيراً، إذا ما انتهت الأمور إلى النتائج السابقة نفسها لتدخلات الصدر، كيف سيتعامل الجمهور العراقي مع أي دعوة يطلقها لاحقة؟