التنوير .. من "الوصمجية" إلى "البصمجية"

التنوير .. من "الوصمجية" إلى "البصمجية"

09 نوفمبر 2021

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

ارتبط التنوير، في التجربة الأوروبية وغيرها، بمواجهة الاستبداد السياسي والأساطير، والدعوة إلى العقلنة والعلمنة والحريات بأشكالها المختلفة. ولم يختلف الأمر، في التجربة العربية، على امتداد قرنين، مع الاختلاف في بعض التفاصيل، وفق وجهة الفكرة، ومصدرها، تنوير ديني وآخر علماني، إصلاح ديني، ودعوات متنوعة إلى العلم الحديث، والفلسفة الحديثة، والدولة الحديثة، تراوحت بين استدعاء الموروث وإعادة قراءته و"أدلجته"، أو الدعوة إلى القطيعة المعرفية. ومن ثم كانت الدولة والمحافظون خصمين لدودين، ناهيك عن خصوم "التقدّم العربي" العالميين، ودعمهم الدائم أنظمة الاستبداد السياسية والمعرفية.
بدأت طرائق الاستبدادين من "وصم" أصحاب الأفكار، إذ عجزت عن مواجهة أفكارهم، وواجه الفريقان، الديني والعلماني، اتهاماتٍ بالعمالة والخيانة والتغريب والزندقة والكفر، لا يختلف في ذلك الأزهري، مفتي الديار، محمد عبده، عن المسيحي العلماني، فرح أنطون. وفتحت الدولة الطريق أمام كتابات "الوصمجية"، من نقاد الفريقين، وأمام تورّط كل فريق في "وصم" الآخر، تعطّلت أفكار التنوير، بجناحيها، عن الطيران، وسقطت جيلا بعد جيل، واصطادتها بنادق الأنظمة ورصاصات المحافظين. تكثفت الفكرتان في نقطة الضوء، الشيخ طه حسين، الأزهري السوربوني، ومن بعده "شبه تيار" من الموصومين، جميعهم انشغلوا بالسؤال نفسه، سؤال النهضة، والتنوير، واللحاق بالعصر، وجميعهم نالتهم الاتهامات نفسها، ولحقت بهم المصائر ذاتها.
لماذا فشلوا؟ تشير إليزابيث سوزان كسّاب، في كتابها "تنوير عشية الثورة، النقاشات المصرية والسورية" (ترجمة محمود محمد الحرثاني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2021)، إلى كتابات منى أباظة ونصر حامد أبو زيد وشريف يونس، في نقد التنوير العلماني (الحكومي تحديدا)، والتنوير الإسلامي (الحركي تحديدا)، نموذج جابر عصفور في مواجهة محمد عمارة، ومدى استفادة الدولة من كل منهما (ليس بالضرورة بالتجنيد أو التنسيق)، في إفشال الآخر، لصالح الدولة وظهيرها (شاء أم أبى أدرك أم لم يدرك) من المحافظين، (الحركات الإسلامية ودوائرها). لفت نظري هنا التوقف أمام "سطحية" أفكار (لنقل بعض أفكار) الطرفين، بفعل إنتاجها في إطار سجالي، ارتجالي، على عجل، ليس لإثراء المعرفة وإنما لمواجهة الآخر، ومناظرته، وإفحامه، ووصمه، ظلاميون في مواجهة متغرّبين، لاحظ: نتحدّث عن ناقد أدبي كبير مثل عصفور، ومختصّ، جاد، في الدراسات الإسلامية مثل عمارة، رحمه الله.
الآن، نحن أمام "منتج" جديد، جرى تصنيعه وفق مقاسات "التريند". لا يحتاج حملات من "الوصم الممنهج" للنيل منه، فهو "موصوم سلفا"، قابل للوصم، بطبيعته، بل إنه لا يسع مثقفا حقيقيا، سوى "نقده"، والمشاركة، أحيانا، في استهلاك خطابات الوصم، خصوصا في بعدها الساخر، الذي يتّسق مع هزلية المنتج، ويصلح، ربما أكثر من غيره، في التعبير عنه. "تنوير السوق"، صياغات أخرى من خطابات الدواعش وفروعهم الأيديولوجية، تحت لافتات التنوير، إجابات سهلة وشعبوية وعدمية (وكوميدية بامتياز)، ما سبيل التقدّم؟ التخلّص من الإسلاميين، العرض وليس المرض، الإخوان وليس الحكم العسكري. وما العائق؟ التراث، طبعا، ليس الاستبداد السياسي ولا الفقر والجهل والمرض، البخاري وليس السيسي وبشار الأسد، ابن تيمية وليس الاستعمار، والإغارات، بالجيوش والرأسمالية المتوحشة وتكنولوجيا الشرائح الإلكترونية على بلادنا وأنظمتنا وأجهزتنا وغرف نومنا، أنوار زائفة .. إدانات زائفة .. معارك زائفة .. إنهاك (مع الإسلاميين وضدهم)، لعقولنا، وخدمات مجانية، عالية الرداءة (أو الجودة المطلوبة)، للأنظمة "البريئة" من خطايا التخلف الديني والسياسي والعقلي. (أتذكر هنا رغما عني علي الشريف في "كراكون في الشارع": "أنا طفل بريء يا بيه").
يتساءل التنويري إبراهيم عيسى: لماذا أدخل صيدلية فأجد الطبيب يقرأ القرآن، وليس مرجعا علميا؟! نتساءل بدورنا: لماذا تُكفّر الدولة المصرية نصر أبو زيد وتنفيه وتفصله من عمله، وتفرّق بينه وبين زوجته، فيما تجمع في ذمتها الإعلامية إبراهيم عيسى (مع خالد الجندي)، وإسلام بحيري (مع عبد الله رشدي)، وخالد منتصر (مع أسامة الأزهري)، وأي أحد (مع مبروك عطية)؟ هل تعدم الدولة المصرية، في جامعاتها ونوافذها الإعلامية، شيوخا جادّين، وعلماء حقيقيين، وتنويريين، لديهم مشروع؟ هل تعجز الثقافة المصرية، حقا، كما يردّد سواد نقادها، عن استعادة جيل النهضويين، إن أرادت، أم أنها لا تريد؟