التنمية البشرية تواجه أسئلة جديدة

13 أكتوبر 2022
+ الخط -

أصدر فريق التنمية البشرية التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريره العاشر 2021-2022 بعنوان "زمن بلا يقين، حياة بلا استقرار"، رَسْمُ مستقبلنا في عالم يتحول، وهو يُكَمِّل سلسلة من ثلاثة تقارير، واكبت المآزق والأزمات التي حاصرت إجراءات ومؤشرات التنمية البشرية، كما تَمّ العمل بها في التقارير السابقة. صدر أولها سنة 2019، في موضوع عدم المساواة، وصدر الثاني سنة 2020، وخُصّص لمخاطر ما أصبح يُعرف بعصر الأنتروبوسين، الذي بدأت فيه الأنشطة البشرية تمارس تغييرات إحيائية وجيوفيزيائية على كوكبنا، الأمر الذي أدّى إلى اللايقين وغياب الأمن. وقد تضاعف هذا الغياب تحت ضغط عوامل أخرى، أبرزها التطرّف السياسي والغوغائية، والتقنية التي تعمل على تحويل الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى أدوات صانعة لعدم اليقين، ودَاعمةٍ لدوائر انعدام الأمن والاستقرار. أما التقرير الثالث، الذي يتوّج التقريرين السابقين، فإنه يتجه لتشخيص جوانب من التحولات التي يعرفها العالم اليوم، من أجل تطوير برامج التنمية البشرية في ضوئها.

ينطلق محرر التقرير من اعتبار أن النظام العالمي الجديد، الذي جرى تصميمه لمواجهة تحدّيات ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد بإمكانه، في ضوء ما يجري في العالم اليوم، من تحولات، أن يواجه تحدّيات ما بعد الألفية. ولا يتعلق الأمر في موضوع هذه التحولات بجائحة كوﭬﻳﺩ 19، ولا بالحرب في أوكرانيا، وهما يعدان اليوم من المظاهر المدمرة والصانعة لكثير من مظاهر عدم اليقين في عالمنا، بل إن التقرير يضع يده على المآزق المتوالية في عالمنا، فيشير إلى تحولات مشهد الجغرافية السياسية، وتصاعد التوتر في بؤر عديدة في العالم، حيث تتواصل كثير من النزاعات المحلية والإقليمية. كما يشير إلى أزمة سنة 2008 المالية، وتحولات المنظومة المناخية والبيئية، وأزمة الغذاء العالمي.. وفي ضوء ذلك، يتساءل التقرير، كيف حصل هذا؟ وكيف يمكن لمنظور التنمية البشرية أن يساعدنا في فهم ما يجري أمامنا، حيث يسود عدم اليقين، بكل ما يحمله من الهواجس المؤدية إلى غياب الأمن والاستقرار؟

يتجه التقرير إلى بناء التصورات المساعدة في عمليات تطوير مبادئ وإجراءات التنمية البشرية وتكييفها، لتصبح قادرة على مواصلة مشروع التنمية البشرية في عالم متغير، عالم بلا يقين ولا استقرار. ويقرأ الفريق الذي أعد مفاصل التقرير وخلاصاته، مختلف الآثار السلبية للتحولات الجارية في العالم، انطلاقاً من إيمانه بضرورة بناء منظور أوسع وأشمل للتنمية البشرية، منظور يسلم بأن التحولات التي تعصف بعالمنا ومجتمعاتنا، تشكل وحدة مترابطة وهي في كثير من أوجهها من صُنعنا.. ورغم أنهم وضعوا عنواناً مُقلقاً للتقرير، اللايقين المستجدّ والمتنامي، وتحدّثوا في فصوله عن عقدة اللايقين، واضطراب العقول والكرب العقلي، إلا أنهم حرصوا في الآن نفسه، على مواصلة إعطاء أهمية لمشروع التنمية البشرية في العالم أجمع. فلا حل في نظرهم أمام كل التحديات الجديدة، إلا بمزيد من تطوير أدوات ووسائل التنمية البشرية، للتمكن من إبداع ما يساعد على مواجهتها والتغلب عليها.

أصبح الجميع مُطالَباً اليوم برسم مسارات جديدة لسياسات ومؤسسات التنمية، وربما أصبح ينبغي النظر إلى التنمية باعتبارها عملية تَكَيُّفٍ مع واقع مجهول

يتجه التقرير إلى تشخيص أحوال البشر ومجتمعاتهم، وأنظمتهم التنموية في ضوء الملامح الجديدة لعصرنا، حيث تؤدّي التغيرات المناخية وما يترتب عنها من تقليص في التنوع البيولوجي، إلى نتائج لا نستطيع اليوم تبين ولا توقع ما سيترتب عنها في كوكبنا. ويتوقف أمام الاضطرابات التي تُوَلِّدُها أيضاً، التقنيات الجديدة وما أصبح يرافقها من مخاطر.. وإذا كان من

المؤكد، أن سيطرة العوالم الافتراضية التي أصبحت تُلَوِّن اليوم عالمنا، تساهم في توليد ونشر كثير من الخلْط في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبحت السياسة ترتبط بالتجارة وبالشؤون الشخصية، وحيث تمتلئ فضاءاتها بكل ما يُشتت الانتباه، كما تمتلئ بالمعلومات المُضَلِّلَة، الأمر الذي يغذّي عدم الثقة، ويعمّم أخطر أنواع عدم اليقين. وقد أصبح مؤكّداً اليوم أن الفضاء الأزرق يقلل التفاعل الملموس والمباشر بين البشر، كما يقلص المشاركة السياسية والثقافية. ومقابل ذلك، تمتلئ منصاته بكثير من مظاهر الصراع والتنمّر.

خصّص التقرير بعض فصوله للحديث عن الاضطرابات التي تصاحب انعدام اليقين والأمن، وقد أصبحت تهدّد بلغة التقرير، سلامتنا العقلية كما تصيبنا بالكرب. ويتصوّر معدّو التقرير أن مشاعر الضيق تتزايد في عالمنا اليوم، حيث يسود شعور بالاغتراب والإحباط إزاء مختلف الأنظمة السياسية. كما يسود انحسار في الممارسة الديمقراطية، في أغلب الدول والمجتمعات. ويؤدّي اللايقين، المترتب عن أحوال عالمنا، إلى أربع مسارات تهدّد كما قلنا سلامتنا العقلية، ذلك أن للأحداث الصادمة من قَبِيل، الجوائح والكوارث الطبيعية، والأمراض الجسدية، وكذا مختلف صوّر القلق التي تنتابنا اليوم، إلى ضغوط تؤثر على صحتنا وتؤثر على التنمية البشرية، إنها تعوق القدرة على الإنتاج والعمل، فتختل موازين التنمية.

هدف التنمية البشرية يتمثل في مساعدة البشر على عيش الحياة التي ينشدون

يوضح التقرير أن هدف التنمية البشرية يتمثل في مساعدة البشر على عيش الحياة التي ينشدون، وذلك بتزويدهم بما يُمَكّنهم من تدبير الحياة والحريات، إلا أن تزايد الشعور بفقدان السيطرة على أفعال التحدّيات الجديدة، دفعهم إلى توجيه أصابع الاتهام إلى أشرار مُتخيّلين، كما ارتفعت أصوات تشكّك في المؤسّسات والنخب، وساد نوع من النزوع نحو الانعزال، ونحو نوع من التشبث بالهويات المغلقة، فأصبحنا في زمن اللايقين أمام كل ما يغذي الغليان والانفجار في الطبيعة وفي البشر..

تساهم التحولات المذكورة، في توسيع درجات التفاوت الاجتماعي. وأصبح الجميع مُطالَباً اليوم برسم مسارات جديدة لسياسات ومؤسسات التنمية، وربما أصبح ينبغي النظر إلى التنمية باعتبارها عملية تَكَيُّفٍ مع واقع مجهول، لتخفيف الضغوط على الكوكب. ونتصوَّر في ضوء معطيات ونتائج التقرير، أن اللايقين المصاحب للتحوّلات التي يعرفها العالم، أخطر وأعظم من مختلف صوّر اللايقين التي رافقت تاريخ الإنسان في أزمنته الانتقالية الكبرى، عند ظهور الزراعة وأثناء الثورة الصناعية، ذلك أن السرعة التي يجري بها الاحتباس الحراري، والأزمة المناخية، وأزمة الغذاء، وكذا ظهور العديد من الأوبئة والكوارث الطبيعية، تُوَلِّد مخاوف الناس المتزايدة من الحاضر والمستقبل، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة إعادة النظر في أنماط عيشنا وطرق تنميتنا.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".