التطويع الإسرائيلي للمشهد البصري
تعمل إسرائيل على إيجاد فضاء بصري، يكثّف سيطرتها على أجساد الفلسطينيين وأمكنتهم، بغرض تكريس عقدة التفوقين، العسكري والمادي. فبدءا بتعرية رجال في غزّة وإذلالهم وقهرهم، مرورا بتدمير معالم القطاع ومحو الأمكنة فيه، وصولا إلى تعزيز شعور المستوطنين في الضفة، بامتلاك السلطة السيادية على المشهد المكاني، تكتمل دائرة إخضاع البشر والحجر لتثبيت سياسة إسرائيل المتأتّية من التقاليد الإحلالية للاستعمار الاستيطاني الأوروبي.
وتتبدى دراسات الإثنوغرافيا التي تركّز على التفاعل السياسي والاجتماعي مع المكان، كمدخل مهم لفهم كيف تحاول إسرائيل دائما تشكيل المشهد المكاني ليكون معبّرا عن فلسفتها السياسية بتأكيد "حقّ السيادة والتفوّق" على أراض محتلة مسروقة من سكانها الأصليين. ولا يكتفي الاحتلال بالوجود العسكري المادّي وكل ما يمارسه من اعتقالات وقتل لترسيخ حقّه المزعوم، بل يحاول تطويع المكان والمشهد البصري لتكريس هذا الوجود المادي الاحتلالي.
يتجلّى مشهد السيطرة والاستعلاء من خلال التحكّم في المشهد الجغرافي، بشكل صارخ، في غزّة، فقد حرصت إسرائيل على نشر صورة رجال عرّتهم من ملابسهم، واصطفّوا في ملعب يعتبر من المتنفسات النادرة لأهل القطاع المحاصر. تريد إسرائيل من الصورة الإذلال، وهي تعلم جيدا ما هو مفهوم التعرّي عند العربي ومدى ارتباطه بالذلّ والإهانة، أن تقهر الفلسطيني، فهي عندما تعرّي الرجل تحاول كسر كرامته وإهانتها، وأن تقول له إنه لا سيطرة له على جسده ولا خصوصية له.
ليست هذه الصورة الوحيدة، في غزّة، فقد عمدت إسرائيل أيضا إلى تدمير أي معلم ثقافي أو رسمي أو تعليمي، هو تدمير مقصود وليس بالمصادفة، بدءا من تدمير مركز رشاد الشوا الثقافي والجامعة الإسلامية، وصولا إلى هدم وتدمير الإرث الثقافي والمعالم التاريخية في غزّة، مثل المسجد العمري ومئذنته التاريخية وكنيسة القديس (برفيريوس) التي يعود تاريخ بنائها إلى 404 ميلادي، إضافة إلى سوق غزّة ومينائها القديمين، وبيت السقا الأثري الذي بُني قبل 400 عام.
مقابل السيطرة على أجساد الفلسطينيين وإهانتها، والعبث بخصوصية أماكنهم وتدمير معالمها، يحاول الاحتلال منح المستوطنين شعورا بالتفوّق والسيطرة على المكان في الضفة الغربية
كذلك، هناك المشاهد العبثية التي ينشرها الجنود الإسرائيليون في غزّة، والتي تُظهر بشكل صارخ العقلية المزروعة في المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية. نحن لا نتحدّث فقط عن مشكلة الانضباط العسكري المتدني بين وسط الجنود في الاستخدام الصبياني للهواتف ومواقع التواصل في وقت الحرب، ولكن مستوى الغطرسة والاستخفاف الذي يُظهره الجندي الإسرائيلي يكشف عن استهانةٍ بالنفس البشرية للفلسطيني، فهي عمليا لا تستحقّ الحياة، ليس مثل الإسرائيلي. لا يتوانى جنديٌّ عن كتابة موعد زفافه في بيتٍ فلسطينيٍّ مدمّر، ولا يتردّد آخر في نشر فيديو تفجير مبنى سكني كامل بكل ما يحمله من ذكرياتٍ لفلسطينيين شُردوا واستشهدوا هدية لابنته المولودة حديثا. وللمفارقة أن الجنديين قُتلا بعد أيام قليلة من نشرهما تلك المشاهد. محاولات الإهانة لا تتوقّف، فالفلسطيني، من وجهة نظرهم، ليس كائنا يستحقّ الحياة، وليس له خصوصيّة، وبيته مستباح للمحتل، وليست مشكلات الجنود سلوكية فردية، كما يحلو للجيش الإسرائيلي أن يزعم، والدليل حين يبتسم الرئيس الإسرائيلي، هيرتزوغ، في أثناء التقاط صورة له وهو يوقّع بقلمه على قنبلة إسرائيلية غالبا ستقتل عشرات الأطفال والنساء، ويدعو وزير آخر إلى ضرب غزّة بالسلاح النووي، كما يصف مسؤول آخر الفلسطينيين بالحيوانات البشرية، ويدعو عشرات المحلّلين الإسرائيليين علنا في وسائل إعلامهم إلى إبادة عرقية جماعية وتطهير إثني ضد كل الفلسطينيين وطردهم باتجاه الأردن ومصر.
ومقابل السيطرة على أجساد الفلسطينيين وإهانتها، والعبث بخصوصية أماكنهم وتدمير معالمها، يحاول الاحتلال منح المستوطنين شعورا بالتفوّق والسيطرة على المكان في الضفة الغربية، فمن خلال عمله الميداني الإثنوغرافي في المستوطنات الإسرائيلية والوجود الاحتلالي في الضفة الغربية خصوصا، يفضح الأستاذ المشارك في جامعة روسكيلد في الدنمارك، سومديب سن، السياسة الكامنة في التصميم الهندسي لتلك المستوطنات، وكيف تسهم في تشكيل الهوية الذاتية للمستوطنين. ويشرح، من خلال عمله الميداني، لماذا يتم غالبًا بناء المستوطنات على أرضٍ مرتفعة؟ ومع أنها غالبا تُبنى قرب قرى ومدن فلسطينية، إلا أنه لا يمكن رؤية تلك التجمّعات البشرية الفلسطينية بسهولة من المستوطنات. والسبب أن طريقة تصميم المستوطنات وتخطيطها لا تتيح لك رؤية المستوطنات الأخرى، إلا من أعلى التلة، وفق ما يشرح سن، في مقابلة مع مركز كارنيغي نُشرت أخيرا. ومثالا على ذلك، يروي سن كيف أنه عندما زار مستوطنة إفرات المقامة في منطقة بيت لحم الخليل، بدا على خريطته الرقمية وكأن من المفترض أن يتمكّن من رؤية قرية وادي النيص الفلسطينية المجاورة من مواقع محدّدة في المستوطنة، ولكنه، ببساطة، لم يتمكن من ذلك، بسبب الحواجز والجدران التي تحجُب الرؤية. كما لم يتمكّن من رؤية وادي النيص، إلا حين سار بعد جهد لضواحي المستوطنة، وهذا المشهد والتصميم سمة مشتركة في كل المستوطنات تقريبا.
حربٌ على الوجود الفلسطيني، ذلك الوجود الذي يتحدّى الرواية الصهيونية، ويقف ثابتاً بوجه محاولات التهجير
أما عن المعنى السيكولوجي وراء هذا العبث الجغرافي، فيقول سن إن هذا الواقع البصري يعزّز شعور المستوطنين بامتلاك السلطة السيادية على المشهد المكاني، من دون أي حضورٍ فلسطيني يتحدّى مجالهم البصري. فعند الوقوف على قمّة التلة، يستطيع المستوطنون النظر إلى الأسفل، نحو الفلسطينيين الذين يعيشون في محيطهم، وبالتالي، صرف النظر عنهم. وفي مقابلاته مع المستوطنين، أبدى معظمُهم نبرة لا مبالية عند الإشارة إلى المجتمعات المحلية الفلسطينية في جوارهم، "كما لو أنهم يقولون إنها لا تشكّل مجتمعًا حقيقيًا، أو سكّانًا لديهم هوية متمايزة.. عبّر أحد المستوطنين الذين تحدّثت معهم، قائلًا: نحن نحبّ الحفاظ على مناظر سلمية!".
وبالنتيجة، تحاول إسرائيل من خلال التدمير الممنهج وانتهاك خصوصية منازل غزّة، واتباع سياسة السيطرة في المستوطنات، تكريس السردية الصهيونية بين الإسرائيليين بأن الفلسطينيين عبارة عن تجمعات سكّانية مختلطة بلا هوية ومن دون جذور في الأرض، فلا معالم تاريخية ولا ثقافة ذات معالم محدّدة، منطق يتطابق مع سلوك المستعمر الاستيطاني الأوروبي الإحلالي، عندما استولى على أراضي السكان الأصليين في أستراليا وكندا والولايات المتحدة وغيرها، بالخطاب ذاته والمنطق ذاته، وليست إسرائيل سوى نسخة عن هذا المشروع وامتداد له.
ما يجري في غزّة ليست حربا على حركة حماس وباقي الفصائل فقط، إنها حربٌ على الوجود الفلسطيني، ذلك الوجود الذي يتحدّى الرواية الصهيونية، ويقف ثابتا بوجه محاولات التهجير، ومحو الهوية والإخضاع والاستسلام.