الترهيب أشد هولاً من الإرهاب

21 ديسمبر 2021

(خليل سمائي جابلو)

+ الخط -

هناك عدد واسع من الأمثلة الصارخة في العالم العربي، الدالّة على صحة الاستنتاج المبيّن في العنوان أعلاه، لا يتسع المقام لسردها، غير أن ما يجري في لبنان منذ سنوات يقدّم أوضح هذه الأمثلة، حيث تجلت سياسة الإرهاب، عقودا طويلة، باغتيال قادة رأي عام ومسؤولين معارضين، منهم لقمان سليم قبل نحو سنة، ثم حلّت محلها أخيرا سياسة الترهيب، بجرّ قادة ومثقفين إلى القضاء، كان أبرزهم فارس سعيد، الذي يناهض بالكلمة هيمنة الوكيل الإيراني على حياة البلد المخطوف.
ولعل الفرق الحسّي الملموس بين مفهومَي الارهاب والترهيب كالفرق بين مصطلحي الحرب الساخنة والحرب الباردة، حيث تدور الأولى بالحديد والنار بين طرفين متنازعين، بالأصالة أو بالوكالة، وتنشب بكامل زخمها فترات محدودة، فيما تجري الثانية بوسائل ناعمة مددا طويلة، وأدوات غير مميتة، ليست بينها الأسلحة النارية على أي حال، ولا يتخلّلها الغزو والاجتياح، وإن كانت تهدف إلى ما تهدف إليه الحرب الساخنة، بما في ذلك الإملاء والقهر والسيطرة على إرادة البلد المستهدف ومقدّراته.
في معجم اللغة، تُطلق صفة الإرهاب على أنشطة من يسلكون سبيل العنف المميت لتحقيق أعراضٍ سياسية. أما الإرهابي فهو من يلجأ إلى القتل لإقامة سلطة أو تقويض نظام، سواء قام بهذا الفعل فرد أو منظمة أو دولة، بينما الترهيب سلوك منهجي لإحداث حالة خوف، وإلحاق ضرر أو أذى بشخص ذي مكانة اعتبارية، بأفعال أو كلمات تنطوي على الوعيد والتهديد، وغير ذلك مما يندرج في منزلةٍ واقعةٍ بين الإرهاب والترهيب.
ليست هذه السطور بصدد التنظير لمثل هذ المفاهيم والمصطلحات المتداولة، وإنما الخوض في غمار ما نعيشه اليوم من ممارساتٍ تتوسل الترهيب السافر والمقنّع، لتخويف الغير من ذوي الرأي الآخر، سواء لابتزازاتهم سياسياً، أو حملهم على الاستجابة لمعتقداتٍ وطريقة حياة قلة قليلة، ترى أنها تملك الصواب المطلق، تحتكر الحقيقة الكاملة، وترغب في فرض أفكارها ونمط عيشها على الجميع من حولها، مستخدمةً كل الوسائل المتاحة، بما في ذلك تقنيات العالم الافتراضي، ووسائط التواصل الاجتماعي التي باتت تضجّ بالتهجمات والإساءات البالغة.
ولمّا أصبح من غير الممكن ترويج الإرهاب علناً، بعد كل ما شهدته المنطقة والعالم من مجازر مروّعة، وبات إبداء التعاطف مع الإرهابيين محلّ مساءلة قانونية، تحوّل من في نفوسهم بقية باقية من لوثة كهذه إلى ممارسة سياسة الترهيب التي تصعب ملاحقة أصحابها بالحيثيات الاتهامية الدامغة، ويتعذّر على الضحايا إثبات صحة ما أصابهم من ضرر، وما مسّهم من خوف، أو نال من سمعتهم، الأمر الذي عقّد الموقف على المستهدفين بعمليات الترهيب، وجعلهم أميل إلى غض البصر والكفّ عن المنازلات القضائية.
غير أن ما صار يلفت الأنظار في هذه المرحلة لجوء الترهيبيين أنفسهم إلى ساحة القضاء، لإعلاء صوتهم وزيادة فعالية تأثيرهم، وتنويع أدواتهم الهجومية، بعد أن فشل الإعلام الافتراضي في إشاعة الخوف والتخويف، وردع المثقفين المشتغلين في المجال العام عن المضي في بث قيم الحداثة، وتعميم الثقافة المنفتحة على روح العصر ومبادئه ومثله العليا، بما في ذلك التعدّدية والاعتدال والوسطية والتسامح والمواطنة والقبول بالآخر، وما إلى ذلك مما لا يروق لذوي الرؤية الأحادية.
ومما يثير الانتباه أيضاً أن الترهيبيين، وهم أبناء عم الإرهابيين، هم اليوم في حالة هجوم كاسح ضد المثقفين الوطنيين الديمقراطيين، لا يتورّعون عن النيْل، ليس من الأفكار والقيم الحداثية المناهضة لروح الكراهية والعمى الأيديولوجي، وإنما أيضاً من أصحاب هذه القيم والمثل الرفيعة، وليس على صفحات التواصل الاجتماعي فقط، وإنما كذلك عبر منصّات المحاكم التي أخذت تشهد، أخيرا، دعاوي كثيرة ضد نساء ورجال من صحافيين، كتب بعضهم مقالاً، أو رسم رسماً كرتونياً، ثم وجد نفسه موضع مساءلة جزائية.
لقد أدّى التحريض وبثّ الكراهية في مجتمعاتنا إلى عواقب وخيمة، لم تمّحِ من الذاكرة بعد، وأفضى الهجوم المتواصل، عبر المواقع الإلكترونية من القلة المتعصبة، إلى ارتفاع نبرة الشكوى العامة، جرّاء استشراء هذه الظاهرة المرضية الطارئة على تقاليدنا المرعية، وليس في الأفق ما يكبح من حدّة هذه الفوضى الضاربة، سوى قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية، شرط أن يكون موضوعياً، وأن يأتي عادلاً ومتوازناً، ورادعاً لكل من يتجرأ على اغتيال الشخصية، وفوق ذلك كافياً لإحقاق الحق بالسرعة المناسبة، لعل مثل هذا التشريع يشكّل بداية معالجاتٍ جديدة.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي