التاريخ الموازي لكرة القدم ...

05 ديسمبر 2022

أستراليون يتابعون في سيدني مباراة بلدهم والأرجنتين في مونديال قطر (4/12/2022/Getty)

+ الخط -

لا ينحصر تاريخ كرة القدم فقط في ما دُوِّن في سجلِّه من بطولات وكؤوس وألقاب وأسماءِ لاعبين كبار ملأوا الدنيا وشغلوا الناس بمهاراتهم وإنجازاتهم، بل يتخطى ذلك نحو ما يُمكن اعتباره تاريخا موازيا لا يقل أهمية عن تاريخها الرسمي والمُدون. وتزداد أهمية هذا التاريخ الموازي مع تحوّل كرة القدم إلى ظاهرة كونية تتجاوز الحدود والانتماءات الحضارية والثقافية والعرقية، كما لو كان الأمر يتعلق بـ ''ديانة'' جديدة تتجدّد طقوسها من جيل إلى جيل. ولا شك أن عولمتَها وتنوّعَ قاعدتها الجماهيرية وتوظيفَ الأنظمة والنخب السياسية لها، ذلك كله يفسح المجال لإعادة التفكير فيها من زوايا نظر وتخصّصات مختلفة، تأخذ بعين الاعتبار المنسيَّ والمغيّب والهامشيَّ في كرة القدم، والذي يقع معظمه خارج رقعة الملاعب.
خصّصت عالمة الاجتماع البريطانية الراحلة، روز ماري كرومبتون، صفحات من كتابها ''الطبقات والتراصف الطبقي'' (صدر في ترجمة عربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2016، أنجزها محمود عثمان حدّاد وغسّان رملاوي) للحديث عن كرة القدم في بريطانيا من منظور تاريخي وسوسيولوجي. ومن وجهة نظرها، كانت كرة القدم، في بداية القرن المنصرم، ''لعبةَ الشعب''. فقد كانت معظم الأندية امتدادا لمجتمعاتها المحلية الشعبية (تجمّعات عمالية وكنسية وتعليمية..)، وتعبيرا عن تطلّعاتها الاجتماعية. ومع اتساع رقعة التصنيع أصبحت الطبقة العمّالية حاضنتَها الاجتماعية. وقد استمرّ ذلك، حسب كرومبتون، حتى مطلع الثمانينيات، ما ساعد على ضبط اقتصاد كرة القدم والتحكّم في أجور اللاعبين، على الرغم من التحوّل الطفيف الذي وقع، مطلع الستينيات، في ميزان القوى بين الأندية واللاعبين، حين ألغت وزارة العمل، في إنكلترا، قانون الحد الأقصى لأجور اللاعبين. بيد أن تقلّص الطبقة العمّالية، بعد أن تحوّلت شرائح واسعة منها إلى الطبقة الوسطى، مهد الطريق لتحوّلات عميقة في الرياضة الأكثر شعبية في العالم؛ هذه التحولات يمثل التسييسُ عنوانها العريض، فقد انتبهت الأنظمة والنخب السياسية للتأثير الكبير الذي تمارسه هذه الرياضة على الناس.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وصعود الأنظمة الشمولية، سيأخذ التوظيف السياسي لكرة القدم منعطفاتٍ أكثر دراماتيكية

التسييس ومقطع أرجنتيني
في هذا الصدد، ليس تسييسُ كرة القدم وليد اليوم، ففي الاتحاد السوفييتي البائد، ودول المعسكر الشرقي، كانت كرة القدم ضمن انشغالات الأحزاب الشيوعية الحاكمة، سواء بتشجيعها ما كانت تسمّى ''كرة القدم العُمّالية'' أو بمحاولات التأثير على الأندية، ضمن سعيها إلى سحب البساط من تحت القوى البرجوازية التي طالما وظفت كرة القدم، والرياضة عموما، حسب الدعاية الشيوعية، للتأثير على الطبقة العاملة وتدجينها. ويكاد الأمر لا يختلف في إيطاليا وألمانيا في فترة ما بين الحربين، فلم تألُ الفاشية والنازية جهدا من أجل إخضاع الأندية لوصايتها، وذلك لقناعتهما بأهمية كرة القدم في إشاعة روح الفريق داخل المجتمع وتغذية الإجماع الوطني. وقد عملتا على تطهير الأندية من العناصر المشكوك في ولائها، وبالأخص في ألمانيا، إذ لم تتردّد السلطات النازية في طرد الكوادر والمدرّبين ذوي الأصول اليهودية أو الميول الشيوعية من الأندية الألمانية. ويسجّل التاريخ الاجتماعي لكرة القدم في ألمانيا كيف تأثرت بعض هذه الأندية، وتراجع إشعاعها الكروي، بسبب تجفيف منابع الدعم المالي الذي كانت تتوصل به من دوائر المال والأعمال اليهودية.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وصعود الأنظمة الشمولية، سيأخذ التوظيف السياسي لكرة القدم منعطفاتٍ أكثر دراماتيكية. ويمثل مونديال 1978، الذي نظم في الأرجنتين، نموذجا صارخا لتلطيخ كرة القدم بالسياسة. كانت استضافة كأس العالم تحدّيا سياسيا بالنسبة للنظام العسكري الذي حكم الأرجنتين بالحديد والنار (1976 - 1983). كان هذا النظام بحاجة لإنجاز كروي يبيِّض سجله الأسود في حقوق الإنسان. ولذلك فعل المستحيل كي تبقى الكأس في الأرجنتين. وخلال الدور الثاني، كان المنتخب الأرجنتيني بحاجة للفوز، بفارق أهداف كبير، على منتخب البيرو كي يتخطّى غريمه البرازيلي ويتصدّرَ مجموعته، ويتأهلَ إلى المباراة النهائية لمقابلة المنتخب الهولندي. طلب المنتخب البرازيلي من رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) برمجة مباريات الجولة الأخيرة في توقيت واحد، كما جرى في مباريات المجموعة الأولى، ضمانا للشفافية، غير أن طلبه رُفض من دون مبرّر مقنع. تغلبت البرازيل على بولندا بثلاثة أهداف لواحد، ما كان يعني، حسابيا، أن الأرجنتين مطالبة بالفوز على البيرو بفارق أربعة أهداف لتضمن التأهل إلى المباراة النهائية. لكنها تجاوزت فارق الأربعة وفازت بسداسية نظيفة في واحدةٍ من أكبر الفضائح في تاريخ كرة القدم. وتردّد حينها كلام كثير بشأن ''صفقة'' جرت بين حكومتيْ الأرجنتين والبيرو مقابل هذا الفوز.

أسهم الارتباط الوجداني للطبقات الفقيرة والوسطى بكرة القدم في شيوع فكرة أن لا كرةَ من دون فرجة وإمتاع

وعلى الرغم من فوز منتخب الأرجنتين بكأس العالم، إلا أن شعورا بالعار ظل يلاحق جيل 1978، بعد أن قدّم خدمة سياسية مجانية لأحد أكثر الأنظمة العسكرية استبدادا في أميركا اللاتينية، في وقت كان آلاف المختفين والمعتقلين السياسيين يقبعون في سجونه السرية، بعضها كان يقع غير بعيد عن ملعب "مونومِنْتال" الشهير الذي احتضن المباراة النهائية التي فازت فيها الأرجنتين على هولندا بثلاثة أهداف لواحد.

وداع المُثل والرومانسية الكروية
من ناحية أخرى، أسهم الارتباط الوجداني للطبقات الفقيرة والوسطى بكرة القدم في شيوع فكرة أن لا كرةَ من دون فرجة وإمتاع. فهي تكاد تكون ''فنًّا'' ينطبق عليه ما ينطبق على الفنون المتعارف عليها. كانت ''كرة القدم الرومانسية'' العنوان الأجمل لهذه الفكرة عند بعض المدارس الكروية، وفي مقدّمتها المدرسة البرازيلية التي اقترنت في أذهان الجمهور بالمهارات الفردية العالية وجمالية الأداء الجماعي.
تكاد لحظة مونديال 1982 تُضاهي لحظة اكتشاف كرة القدم ذاتها. إنها لحظةٌ منفلتةٌ من الزمن الكروي العادي. كان ذلك المونديال محطّة كروية فارقة، ليس فقط بما قدّمه المنتخب البرازيلي، وإنما أيضا بانتشار أجهزة التلفاز المُلوّن، وتعميم البث التلفزيوني المباشر للمباريات، ومشاركة نجوم كبار بحجم زيكو وسقراطيس ومارادونا وروسّي ورومينيغي وغيرهم. وقد أتاح ذلك للجمهور الاستمتاع بمشاهدة المباريات وتغذية مخيّلته بعروض رائعة، سيما تلك التي قدمها منتخب السامبا.
بدا المنتخب البرازيلي وكأنه قادم من كوكب آخر. وقد كان الصحافيُّ الإسبانيُّ إيميليو رودْريغيث على حق، حين وصف، في مقالٍ جميلٍ، أداء هذا المنتخب بـ ''كرة القدم التي نزلت من السماء''. قدّم منتخب السامبا أروع ما يُمكن أن يشاهَد في كرة القدم قبل أن يخسر أمام نظيره الإيطالي في مباراة تاريخية على ملعب سارِيا في برشلونة. كان بحاجة للتعادل فقط ليضمن تأهله إلى نصف النهاية. لكنه لعب من أجل الفوز من دون أن يفكّر مدرّبه، تيلي سانتانا، ولاعبوه أن التعادل يكفيهم للتأهل. وفي وقتٍ كان الحكم يعلن نهاية المباراة، وبالتالي، تأهل إيطاليا، كان المنتخب البرازيلي يحجز مكانه في المخيلة الشعبية الكروية، داخل البرازيل وخارجها، واحدا من أفضل تشكيلات كرة القدم في التاريخ. كان ذلك المنتخب بمثابة ''المدينة الفاضلة في كرة القدم''، بتعبير إميليو رودريغيث.

إقصاء البرازيل في كأسي العالم 1982 و1986 أحدث قطيعة (ربما إلى الأبد!) مع الرومانسية الكروية التي تقوم على الفرجة والإمتاع

تكشف ''مأساة ملعب ساريا''La tragedia de Sarriá (هكذا تسمّى في أدب كرة القدم) الوجه الآخر لكرة القدم، باعتبارها صورة مصغّرة من الحياة، فهي غير عادلة بالمرّة، لا مكان فيها للرومانسية و''المثل الكروية'' التي رافقت انتشارها أكثر من نصف قرن. الفريق الذي يُمتع ويُبدع ويتفنّن على رقعة الملعب لا يعني أنه سيفوز في نهاية المطاف.
يصف بعضهم تلك المباراة بموتِ كرة القدم، فقد شهد مجال التدريب، بعدها، تحوّلات عميقة صبت في القطع مع الفرجة والإمتاع المجانييْن. ولم تعد كرة القدم تُقاس بجمالية الأداء والفنِّيات العالية اللاعبين، بقدر ما أضحت تقاس بما يُحقَّق من نتائج في المباريات. ''الفوزُ مهمٌّ، لكن الهزيمة تكشف دراماتيكية كرة القدم وبعدها الإنساني'' (بتعبير سقراطيس).
تُدرَّس تلك المباراة، اليوم، في معظم معاهد التدريب في العالم، ربما لأنها تختزل، أكثر من غيرها، كرة القدم بكل مفارقاتها؛ فهي فنٌّ وإمتاعٌ وفرجةٌ قبل كل شي، وفي الوقت ذاته عُدّةُ تكتيكات تتوخّى الاستخدام الجيد للقدرات البدنية والتقنية اللاعبين وتوظيفها بطريقة واقعية وبراغماتية بغاية تحقيق الفوز. كانت مباراةً بين مدرستين كرويتيْن مختلفتين؛ الرومانسية البرازيلية المتوسّلةُ بالفرجة التي تتحقق بالمهارات الفردية وجمالية الأداء والتناغم السحري بين الخطوط. والواقعية الإيطالية التي تأخذ بالهجمات المضادّة وتصيُّد هفوات الخصم والفعاليةِ في إنهاء العمليات الهجومية من دون زوائد فنية.
قدّمت مباراة البرازيل وإيطاليا دروسا لأجيال من المدرّبين، لا سيما فيما يتعلق بالتفاصيل التي غالبا ما تحدُث الفارق في المباريات المصيرية. لم يعد ممكنا ضمان الفوز بخطَّيْ دفاع وهجوم جيّديْن من دون الاتكاء على دفاع منظم ويقظٍ. وربما يكون من نافل القول إن إقصاء البرازيل في كأسي العالم 1982 و1986 أحدث قطيعة (ربما إلى الأبد!) مع الرومانسية الكروية التي تقوم على الفرجة والإمتاع. حتى منتخب البرازيل نفسه هجر رومانسيته المفرطة، وبات أكثر براغماتية بعد استسلامه لقواعد النظام الكروي السائد الذي يقوم على أولوية النتيجة على الفرجة والإمتاع. وهو ما عبَّد الطريق أمامه، بشكلٍ لا يخلو من مفارقة، لانتزاع كأسين عالميتين ثمينتين (1994 و2002). ولم يجانب رودريغيث الصواب حين اعتبر أن ''موت كرة القدم الرومانسية في نهاية القرن العشرين يشبه موت المدرسة الرومانسية في الشطرنج في نهاية القرن التاسع عشر''.

أصبحت كرة القدم انعكاسا للتقاطب الثقافي والحضاري والقيمي والأخلاقي بين الشعوب والأمم

جرت مياه كثيرة تحت جسور كرة القدم في العقود الثلاثة الأخيرة، فلم تعد مجرّد رياضة شعبية، بل أصبحت مجالا مستقلا بذاته، تحكُمه تخصّصات علمية مختلفة. ويخضع لحسابات العولمة الاقتصادية. أصبحت كرة القدم في قلب المعاملات المالية العابرة للحدود، والتي يشكّل تسويقُ أسماء لاعبي الصف الأول والمنتوجات والسلع والعلامات والرموز الكروية عنوانها الرئيسَ. ولم يعد احترافها مجرّد مصدرٍ مُدرٍّ لدخل محترم، بل أصبح يحيل إلى طبقة اجتماعية جديدة تستدعي الدراسة والفهم من علماء الاجتماع بمختلف تخصّصاتهم؛ طبقة تتكون من اللاعبين المحترفين ووكلاء أعمالهم والوسطاء والمدرّبين ورؤساء الأندية والاتحادات الوطنية والقارّية وموظفي "فيفا" والمستشهرين ومالكي القنوات التلفزيونية الرياضية وغيرهم، ممن يتحكّمون في اقتصاد كرة القدم عبر ميزانيات خرافية تكاد تعادل ميزانيات دول بحالها.  
لا تبدو الليبرالية الجديدة، اليوم، معنيةً بإبقاء كرة القدم مجرّدَ مصدرٍ لبهجة ملايين الناس الشغوفين بها، بل تعمل على رسْملةِ كل ما يرتبط بها، خصوصا داخل الأندية الأوروبية الكبرى التي باتت تحتكر، من خلال إيراداتها، سوق اللاعبين المحترفين، وتتحكّم في انتقالاتهم، وتحمي، بالتالي، استقرارها المالي.
في السياق ذاته، أصبحت كرة القدم انعكاسا للتقاطب الثقافي والحضاري والقيمي والأخلاقي بين الشعوب والأمم. وهو ما بدا واضحا في مونديال قطر الذي شكّل فرصة لشعوب المنطقة لإبراز بعض ما يغيِّبه الإعلام الغربي بشأن ثقافتها وحضارتها، وأيضا استعدادها لانخراط متوازن في العصر. 
تُغذّي هذه المتغيرات، وغيرُها، تاريخا موازيا آخر، يبدو في طور التشكل؛ تاريخا يشتبك بالمخيلة الجماعية للأجيال الجديدة، وبتمثُّلاتها عن رياضةٍ شعبيةٍ لا تتوقف عن الانتقال من طور إلى آخر.