التائه جهاد الزين

26 فبراير 2019
+ الخط -
حزمةٌ من الأسباب تجعل كتاب المعلق والصحافي اللبناني، جهاد الزين، "المهنة الآثمة.. نقد تجربتي في الكتابة السياسية" (رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2018) جذّابا لنا، نحن أبناء صنعة الكتابة في الصحافة، منها أن لصاحبه تجربتَه المقدّرة، كاتبا مقروءا، ومجدّا، في صحيفتين تصدّرتا في زمنٍ مضى مكانةً متقدّمةً في الصحافات العربية، 15 عاما في "السفير" ثم 22 عاما في "النهار". وصدورا عن هذا الاعتبار، يدلف الواحد منا، زملاء الكاتب (لا معرفة ولا صداقة لصاحب هذه الأسطر معه)، في مغالبة الكلمات والوقائع والأخبار والآراء، وفي باله أنه سيحوز مقاديرَ وازنةً من "النقد" الذي يعد به جهاد الزين، في عنوان كتابه، لتجربته كاتبا سياسيا، وربما يطمع أيضا في إطلالاتٍ من الزميل الحاذق على طرائق اختياره موضوعات مقالاتِه، وكيفيات بناء كتابتِه، ومصادر معرفته بما يلزمه من معلوماتٍ بشأنها، ومقادير اكتراثِه بلغة الكتابة نفسها، وغير ذلك من شؤونٍ متعلقةٍ أساسا بحرفة كتابة المقال نفسها.
تيسّر شيءٌ غير قليل من ذلك في الكتاب، غير أنهما، النقد والإطلالات المتحدّث عنها، ضاعا بين شؤون كثيرة جال عليها جهاد الزين، وطاف فيها وحواليْها، بإفراطٍ غالبا، ما جعل الكتاب "ينحرفُ" عن عنوانِه، وعن مُراده، بل وعن الذي نتوسّله منه، كتابا في الصحافة والكتابة السياسية، لا كتابا معنيّا بآراء سياسية لكاتبه. وإذا جاز اعتبار هذه الملاحظة منهجيةً، ولا تستحقّ اكتراثا خاصّا، سيما وأن الكتاب حفل بانتباهاتٍ شائقة، وإشراقاتٍ نابهة، في غير مسألة، فإن صاحب هذه الكلمات يردّ عليها بإضافة أخرى مثلها، موجزُها أن ضبطا كان لازما بشأن هذه الأنواع في الكتابة الصحافية: المقال السياسي، التعليق السياسي، الكتابة السياسية، العمود، فقد كان جهاد الزين يسترسل في ما يخوض فيه، من دون اعتناء بالتمايزات بين هذه الأنواع، والتي أراها تمايزاتٍ مهمةً، فليس مقال الرأي تعليقا، ولا المقال عمودا. وجهاد الزين أستاذٌ لنا، نحن الذين من جيلٍ تالٍ لجيله، في هذا الأمر وغيره، سيما وأنه كان في الكتاب خبيرا في إحاطته بالجديد المُضاف، في الصحافة الغربية، على كتابة الخبر، ما يجعله تقريرا، وفي التقاط التداخل الذي يحدثُ أن يحدثَ بينهما.
يحتاط جهاد الزين، في كتابه الذي يوفّر متعةً طيبة لقارئه، من إطلاق اليقينيات، وادّعاء درايةٍ موثوقةٍ بهذا الأمر وذاك. ولعل المقولة الجوهرية، المُضمرة والظاهرة معا، للكتاب، هي وجوب عدم ادّعاء المعلق والكاتب السياسي امتلاك الحقيقة، كما أن ثمّة فكرةً غير خافيةٍ في "المهنة الآثمة.."، وهي الميل إلى القلق، إلى الأسئلة، إلى ارتجاج القناعات. ولأنه ليس في الوُسع هنا الإحاطة بزوبعة من المشاغل والقضايا والموضوعات بَسَطها جهاد الزين في مؤلّفه، فإن "التعليق" المرتجل هنا ينتقد ما حضر في الكتاب من إطلاقيةٍ في التعبير عن بعض وجهات النظر، ربما لشيءٍ من "الانفعال" فيها، فيما أخبرنا جهاد الزين بأنه يسأل نفسه، وهو يكتب مقاله، كيف يضبط آراءه ضد الانفعال السياسي المكتوب. وهنا، يمكن السؤال عن السبب الذي جعل صاحبنا لا يضبط مفرَدته، لما جاء على رفيق الحريري، واعتبره شهيد قرار جاك شيراك وحساباته، وليس شهيد ولي نعمته وصديقه الملك السعودي فهد. وفي ظني أنه كان يلزمه التحرّز في استخدام صفة ولي النعمة هذه. وفي موضعٍ آخر، كان يلزُمُه مقادير من التحوّط، وهو يسأل: هل لدينا في الشرق الأوسط صحيفةٌ بمستوى حرية صحيفة هآرتس الإسرائيلية ونقديّتها وتنوّع اتجاهات تقاريرها وكتابها؟ أقول: هل هذا السؤال، في هيئته هذه، عندما يُزيح تفاصيل عديدة تتصل به، جائز؟ يسأل جهاد الزين سؤاله (المستهجن؟!) بعد أن كان قد رأى أيضا أن "هآرتس" أهم وأنجح صحيفة في الشرق الأوسط ليس لدينا بقوة شجاعتها النقدية..
كان أكثر أهميةً من "شجاعة" زميلنا، وهو يُشهر إعجابَه المُفرط بصحيفة إسرائيلية، أن يأتي على مسألة ما يتغير عند الكاتب السياسي، وهو ينتقل من منبر إلى منبر، كما حالُه نفسُه من "السفير" إلى "النهار". وكان مهمّا لو تخفّف كتابه من غواية الأسئلة إلى محاولة الإجابة، من قبيل إجابةٍ كان مرغوبا أن يؤدّيها عن سؤاله: هل أنا كاتب سياسي تائه؟ تَركَ الإجابة، وترك قارئ كتابه أمام تيهٍ في زوبعةٍ من قضايا منثورةٍ كيفما اتفق غالبا..
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.