البرلمانات والأحزاب في المؤشّر العربي 2022
واحدةٌ من خلاصاتٍ غزيرةٍ وشائكة (وشائقة) في خرائط الأرقام والنسب المئوية المتنوّعة الوفيرة، في المؤشّر العربي 2022، أن ثقة المواطن العربي بجهاز المخابرات في بلده أعلى بكثيرٍ من ثقته بالبرلمان وبالأحزاب. وفي وُسع الأردنيين، مثلا، أن يروْه موضوعا لإبداع نكاتٍ دالّةٍ ثباتَهم في الموقع الأول بين أشقّائهم العرب، منذ استطلاعات سابقة للمؤشّر العربي، في عدم الثقة في البرلمان (أيا من كانوا من فيه!)، وبنسبةٍ باهظة، في مقابل ثقتهم العالية بالمخابرات. ومن مفارقاتٍ تحتاج درسا معمّقا أن المواطن العربي يؤيد النظام الديمقراطي، بل يراه الأفضل، بنسبة 72%، فيما يعارضه 19%، لكن 47% يوافقون على أن مجتمعاتهم غير مهيأة لممارسته. ويعارض هذه المقولة 45%، و8% لا يعرفون أو يرفضون الإجابة. ولقائلٍ أن يقول إن شيئا من التناقض بين الأمريْن، وفي هذا بعضُ الوجاهة. ولئن تتقدّم لدى المواطن العربي أولوية الشأن الاقتصادي المعيشي، وباضطرادٍ بالغ الأهمية المعيارية، منذ المؤشّر العربي 2011، والذي كان القائلون بهذه الأولوية فيه 37% وصولا إلى 60% في المؤشّر 2022، فإن هذا لا يخصم من أهمية التدقيق في منظورات المجتمعات العربية إلى مسألة الديمقراطية، بوصفها من طرائق الحكم والتسيير والإدارة، الموصولة بداهةً بالمسألة الاقتصادية، وقد سجّل استطلاع 2022 (في 14 بلدا، بينها السعودية وقطر والكويت) النسبة الأعلى، مقارنةً بالاستطلاعات السابقة، للقائلين إن أهم مشكلةٍ تُواجه المواطنين العرب ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة.
يريد المواطنون العرب الديمقراطية، غير أنهم، في غالبيتهم، يستنكفون عن الاقتراع في المواسم الانتخابية، وقد صار ملحوظا أن ازورارهم عن تأدية هذا الذي تسمّيه السلطات الحاكمة، في دعائياتها إياها، واجبا على المواطن، في تزايدٍ دوريٍّ مضطرد، محرجٍ لهذه السلطات. ومن ذلك أن الرئيس عبد المجيد تبّون اضطرّ للقول، عند تدنّي نسبة الإقبال في الانتخابات التشريعية في بلاده صيف 2021، وكانت الأقل في تاريخ الجزائر، 30% (قالت المعارضة إنها 23%)، إن نسبة المشاركة لا تعنيه، وإنما تعنيه الشرعية الناتجة عن الصندوق. وكانت النسبة نحو 37% في انتخابات 2017. ونلقى الأمر نفسَه في الأردن، فبالكاد وصلت نسبة الاقتراع في انتخابات 2020 إلى 29,9%. ولمّا تذرعوا هناك بجائحة كورونا، فإن النسبة كانت 37% في انتخابات 2016. والمؤدّى هنا أن قناعة المواطن العربي بالديمقراطية لا تأخذُه، غالبا وسيّما في المدن الكبرى، إلى انتخاب أعضاء المؤسّسة التمثيلية للشعب (البرلمان). ولعلّ هذا مما يفسّر ضعف ثقة هذا المواطن بهذه المؤسّسة (وليس بالضرورة رضاه أو عدمه عن أدائها!)، قياسا إلى الثقة بالجيش أولا، ثم الشرطة والأمن ثم القضاء ثم الحكومة، وإن تحسّنت هذه الثقة، فقد كانت 32% في استطلاع 2011 (ثقة كبيرة، وثقة إلى حدّ ما)، وصارت 46% في استطلاع 2022، مع احتفاظ الأردنيين بموقع الصدارة في قلة الثقة (80%).
ولمّا كانت الأحزاب، بداهةً، من أهم الأجسام التي يُفترض أن تضمّ التعبيرات السياسية المتنوّعة في أي مجتمع، وأن تتدافع بما لدى كلٍّ منها من قوة اقتراح، في تنافس برامجها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من أجل الوصول إلى البرلمان والحكم، فأن يكون 26% فقط من المواطنين العرب يثقون بالأحزاب في بلدانهم هذا دليلٌ على خللٍ ثقيل راهنٍ في علاقة المواطن العربي بالسياسة، على غير حاله في ستينيات القرن الماضي وما قبلها، فقد كان من الذائع، إلى منزلة البديهي ربما، أن ينضمّ الشباب والطلبة إلى الأحزاب، البعثية والقومية واليسارية والإسلامية. وها هم الأردنيون، تلحّ النخب في الدولة وفي الحقل السياسي العام على ضرورة إحداث حياةٍ حزبيةٍ نشطةٍ بينهم، واستجدّ قانونٌ في هذا الصدد، ليصير في الوسع تشكيل حكوماتٍ حزبيةٍ بناءً على موازين الأحزاب في البرلمان، وذلك وفقا لتوصيات اللجنة الملكية لتحديث السياسات، لكنهم أقلّ العرب، في مؤشّر 2022، ثقة بالأحزاب، 84% (عدم ثقة إطلاقا، وعدم ثقة إلى حدّ ما).
تُرى، هل يعني هذا الحال أن قناعة المواطن العربي بالديمقراطية لم يقابلها وجودٌ يقنِعه لديمقراطيين في الأحزاب والبرلمانات؟ يتبدّى شيءٌ من هذا في قراءاتٍ متتابعة لنتائج المؤشّر العربي في سنواته الثماني ... وهنا يحسُن، بمناسبة إعلان نتاج جديدِه الثلاثاء الماضي، الثناء على مواظبة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على صدور هذا المسح الكاشف والثقيل القيمة على غير صعيد ومستوى.