البحث عن بديل في قاهرة الضباب
حالة من الضباب الكثيف تخيّم على أجواء مصر السياسية، تجعل الناس طوال الوقت متأرجحين بين الخوف والأمل، بين اليأس والرجاء، بكلمة واحدة: حالة من التشاؤل، إذا لا يملك القطاع الأوسع من الناس رفاهية التفاؤل بإمكانية الخروج الآمن من هذا الطقس السيء، وفي الوقت ذاته، لا طاقة لهم على احتمال مزيد من التشاؤم والاستسلام لمنطق انتظار المجهول.
هذه البيئة مواتية تمامًا لكل تنتعش أسواق الكهنة والعرّافين والدجّالين، وحملة رسائل الأسياد المختبئن في مكان ما، لكنها كذلك بيئة صالحة تمامًا لتدمير ثقة الجماهير بنفسها ودفعها بأقصى سرعةٍ ممكنةٍ إلى القبول بأي شيءٍ من أية جهة، مع التسليم التام بأنهم ليسوا طرفًا في كل المعادلات.
هنا، تحترق القيم وتتآكل المفاهيم وتنحر الأحلام المشروعة نحرًا بحبلٍ من التسريبات والتكهّنات المتدفّقة من الغرف المعتمة على ألسنةٍ كانت حتى وقت قريب مصدرًا أساسيًا من مصادر النكتة السياسية فيحدُث أن تتعلق الأنظار بكل أدوات ووسائل قتل أحلام الثورات، باعتبارها عنوان التغيير القادم، فتقرّر هذه الأدوات في لحظةٍ أن تنتحل خطابًا ثوريًا مصطنعًا وفاسدًا في معناه ومبناه، وتمارس فرز الناس وتقييمهم وتصنيفهم وكأنها صارت في لحظةٍ معيار الوطنية والثورة والكفاءة.
مناخ اسبرطي تمامًا يسود فيه كل رديء بعد سنواتٍ عشر قاحلة في كل شيء أدّت إلى إعطاب قدرة الناس على الحلم، وهبطت بسقف الطموح إلى الحدّ الذي صاروا معه لا يمانعون في وضع أنفسهم رهن إشارة أي بديلٍ على قاعدة أنه ليس هناك أسوأ مما هو قائم.
في هذا المناخ، تتراجع أهمية قضايا أساسية، التطبيع مثلًا، ويكون مطلوبًا وفق منطق براغماتي خالص التغاضي عن مسائل جوهرية، بزعم إن على الكل التجمّع تحت راية "أي بديل والسلام"، وهو أفضل ما يمكن أن تقدّمه أية معارضة لأي نظام من خدمات، إذ تمنحه الفرصة للتعلّق بحبال الاستقلال الوطني والكرامة، وهو ما يتحقّق حرفيًا الآن في مصر، إذ بدأت أصواتٌ تنتحل خطاب خمسينيات جمال عبد الناصر، وتستعير أدوات العزف الجبارة على أوتار مؤامرة الأطراف الدولية ضد الوطن لتركيعه وانتهاك سيادته.
هذه الأجواء تحبّها السلطة الحالية، بل أنها كذلك تجيد تصنيعها وتعتبر صناعتها مشروعًا قوميًا دعا إليه الحاكم صراحًةً، حين طالب، في ختام أحد مؤتمراته الشبابية في مثل هذا الوقت من العام 2017، بتلقيح الجماهير بجرعاتٍ مكثفة من فوبيا الخوف، مطالبًا الإعلام بالبدء فورًا في صناعة فوبيا إسقاط الدولة لدي المواطنين.
والشاهد أن ما يدور الآن محاولة إغراق المجال العام بنوعياتٍ من البدائل، هي أكثر رداءة من الوضع القائم الذي يبدو ليس بعيدًا تمامًا عن إطلاق هذه البدائل، لكي تلتهم أي بديلٍ جادّ وحقيقي قد يُقدم على بلورته، هؤلاء الثوريون المتقاعدون المنتمون لثورة يناير الذين يلتزمون أماكنهم في مقاعد المتفرّجين منذ فترة ليست قصيرة. ويمكن الزعم إن هذا واجب الوقت، وخصوصًا أن هذه الثورة تتعرّض لما يمكن وصفها عملية محو كامل من الذاكرة، في ظلّ حرص الأطراف المتحكّمة في لعبة إطلاق البدائل على استبعادها من معادلات أيّ تغييرٍ قادم، إلا باعتبارها جزءًا صغيرًا في ترسانة التغيير على طريقة الأجهزة الأمنية الموكلة من أطراف دولية وإقليمية، بحسب ما يتم تكريسه عنوةً في الوعي العام الآن.
أخيرًا، يتأكّد الآن أن المسألة ليس انعدام كفاءة، فقط، وإنما هي، قبل ذلك وبعده، عدم جدارة معرفية وأخلاقية، وجهل كامل بمقتضيات التاريخ والجغرافيا، لم يعد مجديًا معه أن يطلّ أحد على الناس في هيئة الحاوي الفيلسوف ليُخرج من أكمامه مزيدًا من أوهام الفوبيا، أو يعدهم ببعض الخبز والأموال، لكي يصفّقوا له ويدعون له بطول البقاء، فالحاصل أنهم فقدوا القدرة على إقناع الجماهير بتعاطي مزيدٍ من جرعات الوهم، فانفضّ الناس عنهم، ولم يبق لهم سوى تلك الأسراب من الجراد الإلكتروني وحناجر وميكروفونات مسعورة تجترّ بذاءاتها منتهية الصلاحية ضد كل من ينطق بكلمةٍ عن هذا الخراب.