الانقلاب: ثورة محافظة لفائدة الشك؟

05 سبتمبر 2023
+ الخط -

بعد سيادة البلاغة السعيدة ضد الهيمنة الغربية، وكانت سعادةً مشروعة على كلّ حال، كما عبّرت عنها مشاهد التصفيق للانقلابات العسكرية في أفريقيا، هل يمكن المغامرة بتفكير مغاير يرى في الانقلاب الأفريقي شيئاً آخر غير الحل العنيف للتناقضات السياسية الداخلية في بعض بلدان القارّة؟
يبدو ذلك ممكناً من زاوية نظر جان فرانسوا بايار، الأستاذ في المعهد الدولي للدراسات العليا والتنموية في جنيف، المدير سالفا لمركز الأبحاث الدولية في فرنسا وأحد المتتبّعين، بل الملتزمين نقديا بتحليل سياسة الغرب، وفرنسا خصوصا في أفريقيا. لا يتردد الباحث والمحلل المعروف، الذي كتب كثيرا عن القارّة، مثل كتابه "حالة الاستعصاء في غرب أفريقيا" (2019) في الحديث، عبر حوارات وبرامج سمعية بصرية عديدة عن هذا البعد التاريخي العميق في تشكّل الدولة الأفريقية.
وإذا كان الباحث لا يلغي وجود حالات من "التضادّ الداخلي في كل حالة من حالات الانقلاب في القارّة"، تعبر عنه "صراعات المصالح، ورهانات القوة وسط الطبقات الحاكمة"، فإنه مع ذلك يرى أن النهر الكبير الذي يجرّ الأحداث في تدفقه في مناطق الانقلابات يعبر عن وجود "موْجة كبيرة موجَّهة ضد أنظمة الحكم، على خلفية ثورة محافظة كَجِدارية تاريخية تحذوها نزعة غضب واستياء ومضاضة ضد الغرب عموما، وضد فرنسا على وجه التخصيص". وعليه، يمكن أن تستنتج أن الانقلاب، من هذه الزاوية، هو ثورة لفائدة الشك، ثورة محافظة، يقف من ورائها تغيير ديموغرافي كبير، ساعد على تجدّد كبير في النخب، تعيد النظر في السلوك الحديث للدولة. 
ويرى أصحاب الثورة المحافظة الجدد أن من مظاهر الدولة الأفريقية، المنحدرة بشكل مزدوج عن إرث تاريخي، "إمبراطوري" ومحاولة تبْييء الدولة الأمة، كما ورثتها القارّة عن النموذج الغربي (والفرنسي اليعقوبي أساسا)، جَعلَ محاولة مأسسة الحكامة والشفافية المرتبطة بها والتنافس السياسي والملكية الخاصة للثروة والعدالة الاجتماعية قضايا تُعالَج من زاوية نظام العنف، وليست قضايا تحلّ ضمن مسلسل تطوُّر الدولة الطبيعي.

فكرة الثورة المحافظة مستجدَّة جامعة سادت في الثمانينيات من القرن الماضي، للبرهنة على وجود تياراتٍ واسعة داخل المجتمع

ومن المفيد أن يُشار إلى أن فكرة الثورة المحافظة مستجدَّة جامعة سادت في الثمانينيات من القرن الماضي، للبرهنة على وجود تياراتٍ واسعة داخل المجتمع، في قلبها التيار الوطني المحافظ الذي يسعى إلى استعادة القرار السيادي، ويقرّر القطيعة مع الغرب عموما. وعرفت الفكرة تمظهراتٍ عديدة في ألمانيا وإيطاليا وسويسرا، وقد استعملها الروائي والصحافي والكاتب أمين معلوف ضمن مقاربة إجرائية صار لها تاريخ، بعد أن نظَّر لها في كتابه "غرق الحضارات" في سياق الحديث عن الشرق، وفي قلبه الشرق العربي.
ولعل أهم ما يمكن الخروج به أن هذه الثورة المحافظة عرفت نجاحاتٍ باهرة في أربع تجارب عالمية، عرفت فيها كل قارّة ثورتها الخاصة بها، في تزامن مثير له معنى، ولا تخطر نتائجه على بال، منها الثورة الخمينية في إيران في 1979، ومحافظتها تتمثل في مضمونها كما في أسلوبها وفي قادتها. ثم الثورة التي قادت دينغ كسياو بينغ إلى قيادة الصين، وكان طابعها المحافظ يتمثل في عودة الصين إلى تراثها التجاري، وقد قفزت بها إلى مرتبة القوة العالمية الثانية، ثم الثورة التي قادتها، في إنكلترا، مارغريت تاتشر، باعتبارها ثورة محافظة في قلب القارّة العجوز مقابل ثورة رونالد ريغان المحافظة في الفترة نفسها، والتي جدّدت نوعاً ما قوة الولايات المتحدة، وجعلتها تعتبر مصلحتها السيادية معياراً لكل وجود دولي، 
فهل يعني هذا أن القارة الأفريقية متأخرة بثورة عن باقي القارّات، وأنها تستدرك درس التاريخ الذي فاتها في ثمانينيات القرن الماضي؟
هناك عجز عن التحوّل، في الدول التي تعتريها الانقلابات إلى الليبرالية السياسية والاقتصادية، كما دعت إليها كتابات الثورة المحافظة، كما أنّ الحركة الحالية في حاجة إلى منطق الثورة، ويعني التغيير الجذري والعميق في بنيات السياسة والاقتصاد والمؤسسات، وفي الوقت نفسه، منطق المحافظة، بما هي موقف يحافظ على الوضع القائم، في منأىً عن أي تغيير يُحدِث القطيعة المطلقة. وهو منأى جعلها تتأرجح بين الحياة الدستورية الطبيعية ومحاولات تعديل الاختلالات الصعبة داخل الدولة والمجتمع. وهي مقاربةٌ لا تدخل في الحسبان العوامل الخارجية، والتي لها، في الحالة الأفريقية دور جوهري، وتلك "ثورة" أخرى.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.