الانقلابات عملاً أميركياً شاقّاً
لم يأت السفير ومستشار الأمن الأميركي الأسبق، جون بولتون، على مشاركته في التخطيط لانقلاباتٍ، في معرض زهوٍ واعتدادٍ بنفسه، وإنما بدا يقول هذا، معقّباً، بعبارةٍ عارضةٍ وموجزة، ولكنها شديدة الأهمية، على قول محاورِه في "سي أن أن"، أخيراً، إن المرء ليس في حاجةٍ إلى أن يكون فذّاً ليحاول تدبير الانقلاب. حرص بولتون على إشهار نقطة نظام على هذا الكلام الذي يبخّس من الجهد اللازم عند تخطيط الولايات المتحدة لانقلابٍ في هذا البلد أو ذاك، فقال، نافياً ومعترِضاً، "لا، هذا أمرٌ يتطلب كثيراً من العمل الشاقّ". ولكي يعضُد قولتَه هذه، أفضى بأنه شخصياً شارك في أعمالٍ كهذا. وباستثناء مجيئه على محاولة إطاحة رئيس فنزويلا، مادورو، بدعم زعيم المعارضة غوايدو، في عام 2019، لم يسترسِل في غيرها. وفي الوُسع أن يُقال هنا إن الرجل الذي استهجن رئيسُه ترامب عدم رؤيته، ولو مرّة، مبتسماً، كان صادقاً، إذ إن فشل تلك المحاولة الأميركية لـ"تزبيط" انقلابٍ في فنزويلا تفيد بأن القصّة ليست هيّنةً كما اعتقد المذيع في الشبكة العتيدة، جيك تابر، فنيكولاس مادورو ما زال رئيساً في كاراكاس. وليست منسيّةً واقعة الانقلاب الناجح 47 ساعة ثم فشلها، في إبريل/ نيسان 2002، في فنزويلا على الرئيس تشافيز الذي قال إن الولايات المتحدة تعمل على إطاحته. ثم تسرّب أن إدارة الرئيس بوش الابن، في حينه، كانت على درايةٍ بالمحاولة، بل كانت على صلةٍ بقيادات من الانقلابيين.
أرشيف المخابرات الأميركية ثقيلٌ بمحاولاتٍ فاشلةٍ وأخرى ناجحةٍ، في إثارة قلاقل في هذا البلد أو ذاك، للتنغيص على هذا الرئيس أو ذاك، وفي التخطيط لانقلابٍ عسكريٍّ (أو غير عسكري) على هذا الرئيس أو ذاك، بل وأيضاً محاولة قتل زعيمٍ هنا أو هناك، بحادثٍ أو تسميمٍ أو غيرهما. وقصص محاولات الخلاص من جمال عبد الناصر وكاسترو ليست "خراريف"، بل منها الحقيقي الكثير. أما الأدوار القذرة (هل من مفردةٍ أخفّ وطأة؟) لهذه المخابرات في دعم دكتاتورياتٍ مشهودةٍ ضد زعاماتٍ وطنيةٍ معلومة، فلا يشيل واحدُنا "الزير من البير" لو أتى على بعضها. في تشيلي مثلاً، وقد ساندت هذه المخابرات الجنرال بينوشيه، لمّا خلع سيلفادور الليندي وقتله في انقلابٍ عسكريٍّ دمويٍّ في 1973، وكذا الدور غير المخفيّ في هذا كله لوزير الخارجية في حينه، هنري كيسنجر. وليست الولايات المتحدة وحدها التي زاولت (وتزاول) ما أفضى به بولتون، فالعمل الكثير (والشاقّ) الذي يتطلّبه التدبير والتخطيط لانقلاباتٍ قد يستدعي عوناً من غير جهاز مخابراتٍ أو غير حكومةٍ في غير بلد. ولعلّ شيئاً من هذا احتاجته المخابرات الأميركية في طبخ الانقلاب على رئيس الوزراء في إيران، محمد مصدق، في 1953. ويحدُث أن تفاجئك معلوماتٌ تُصادفها، وتؤكّدها مصادر موثوقة، من قبيل دورٍ للمخابرات الإيطالية في الانقلاب (الطبي؟) في تونس على الرئيس بورقيبة، وصعَد به زين العابدين بن علي رئيساً في 1987.
ما الذي يجعل مذيع "سي أن أن" يستسهل ترتيب انقلاباتٍ، فيراها لا تحتاج طبّاخين لها أفذاذاً؟ هل هي القناعة المتوطّنة في أفهام صحافيين عديدين ومداركهم أن في وُسع أهل الحلّ والربط في دواليب القرار في المؤسسة الأميركية الحاكمة أن يفعلوا ما يشاءون هنا وهناك؟ لم يكن "الزميل" موفّقاً في الذي أراد محاجَجة جون بولتون فيه. ولم يكن موفّقاً، أيضاً، في عدم جرّ الأخير إلى شيءٍ من إسهابٍ في الذي "انفرد" (إلى حد ما) في قوله بهذه الصراحة (والوقاحة، لم لا؟)، إذ يُحاذر المسؤولون الأميركيون، السابقون ومن هم في مواقعهم، الإفصاح عن أمرٍ كهذا، وإنْ تحفل مذكّراتٌ وأبحاثٌ ووثائقُ معلنةٌ بما يفضَح ويوضح ويكشف عن حضور أميركي في هذه الموقعة أو تلك، من قبيل اتصالاتٍ بين بعض ضباط حركة 23 يوليو (1952)، مع السفير الأميركي في القاهرة، جيفرسون كافري، قبيل خلعهم الملك فاروق، من دون أن يعني هذا أن ذلك الانقلاب العسكري، والذي صار ثورةً بفعل إنجازاته (من دون كلامٍ مسهبٍ في الموضوع) كان ترتيباً أميركياً، كما يستطيب القول غلاةٌ إخوانيون وكارهون لجمال عبد الناصر.
ليس صاحب السطور أعلاه من الغلاة في أي شأن، ولا يستأنس بالكراهية في إشهار رأيٍ أو وجهة نظر أو موقف، ولكنه يسأل عمّا إذا كان عملٌ استخباري (أو دبلوماسي) أميركي، شاقّ أو غير شاقّ، جرى في غضون التهيئة لانقلاب 3 يوليو (2013) في مصر، مثلاً؟