الانشغال بحقوق الفلسطينيين "موضة قديمة"

27 اغسطس 2022
+ الخط -

تجيء خطوة تخصيص مطار إسرائيلي في إيلات لسفر ابناء الضفة الغربية المحتلة إلى الخارج في سياق هجمة إسرائيلية للضغط على الأردن وعلى السلطة الفلسطينية والرازحين تحت الاحتلال، إذ تشعر تل أبيب، في هذه المرحلة، بأنها في أفضل ظروفها وأقوى حالاتها، وأن شطراً كبيراً ومهماً من دول العالم العربي يقبلها كما هي عليه، ومن دون ربط العلاقات معها بالصراع الأصلي، الفلسطيني ــ الإسرائيلي. هذا وفي وقت تراجعت فيه إلى الحد الأدنى مخاوف حكومة المستوطنين من أية ضغوط عليها من الإدارة الديمقراطية في واشنطن. وقد أصبح نهج تشديد الاحتلال ومضاعفته على ثلاثة ملايين رازح تحت الاحتلال في الضفة، وعلى مليوني نسمة من أبناء قطاع غزة، أصبح "أمراً داخلياً إسرائيليا"ً، لا يثير كبير انتقاداتٍ من المراكز الإقليمية والدولية، باستثناء الاتحاد الأوروبي، الشريك في مشروع بناء مرافق البنية التحتية لإدارات السلطة في رام الله. لهذا تتصرّف حكومة لبيد بينت مطلقة اليدين في الأراضي المحتلة، داعية العالم إلى الانشغال بمجريات مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني وبالحرب في أوكرانيا، وتأمين نقل الحبوب الأوكرانية، ومكافحة الأوبئة، وبأي أمر آخر، باستثناء الانشغال بما يجري في الأراضي العربية المحتلة.

وقد مهّدت دولة الاحتلال لقرارها تسهيل استخدام مطار رامون، وعلى مبعدة كيلومترات من مطار الملك حسين في العقبة جنوبي الأردن، بتعقيد إجراءات التنقل عبر الحدود مع الأردن. وكانت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد دعت تل أبيب إلى اتخاذ خطوات رمزية لبناء الثقة مع الجانب الفلسطيني، منها إشراك الفلسطينيين بالعمل في نقاط الحدود (عُمل به فترة قصيرة لدى البدء بتطبيق اتفاق إعلان المبادئ لعام 1993). والآن، تزمع القوة المحتلة، بقيادة اليمين الأشد تطرّفا، حرمان الفلسطينيين راهنا ومستقبلا من أن تكون لهم أية نقطة حدودية مع الخارج، وأن تفرض عليهم التنقل من ميناء جوي إسرائيلي مع تقديم تسهيلاتٍ في إجراءات السفر، بما يقوّي الارتباط القهري بدولة الاحتلال وقراراتها ومخطّطاتها. وسبق للسلطة الفلسطينية أن طالبت بالحقّ في تجديد العمل بمطار القدس (قلنديا)، إلا أن سلطات الاحتلال رفضت ذلك، ضمن رفضها أي مظهر سيادي فعلي للفلسطينيين على أرضهم وعلى حياتهم. كما سبق أن جرى إنشاء مطار غزّة وافتتاحه بعد اتفاق أوسلو، وأنشئت خطوط جوية فلسطينية، لكن سلطات الاحتلال أوقفت استخدام هذا المطار، حتى إنها قصفته ودمرته، وحظرت معه استخدام ميناء في غزّة حتى بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في العام 2005، إذ تسيطر القوة المحتلة على الأجواء وعلى المياه الإقليمية لـ"بحر غزّة". وقد أعلنت السلطة مرارا رفضها خطوة جعل الفلسطينيين ينتقلون من مطاررامون في إيلات، كما أعلنت أن الأمر تم بقرار إسرائيلي منفرد، فيما جرى الإعلان لاحقا عن التحضير لإجراءات تُحرّم استخدام هذا المطار وتجرّمه.

تطمح دولة الاحتلال إلى إقامة سكة حديد سلام تنطلق نحو الأردن، ومنه إلى العالم العربي، علاوة على مشاريع الكهرباء نحوها والغاز منها

الهدف الثاني وراء هذه الخطوة قطع صلات أبناء الضفة الغربية المحتلة بعمقهم الأردني والعربي، عبر التقليل من استخدام النقطة الحدودية مع الأردن، ووضع عقبات أمام التنقل عبر المنفذ الحدودي. ولهذا، رأى الأردن مُحقاً أنه مستهدف بهذه الخطوة مع تحويل حركة نصف مليون فلسطيني سنويا باتجاه آخر. والمهزلة أن حكومة لبيد تدّعي أن من أهدافها تحسين العلاقات مع الأردن، لكنها لا تتورّع عن العمل على إضعاف النقطة الحدودية التي يستخدمها الفلسطينيون للتوجّه نحو الأردن والعودة منه، وربما العمل على إلغائها مستقبلا. وقد زار مسؤولون إسرائيليون كبار العاصمة الأردنية خلال الأشهر الماضية، وتحدّثوا بكلام معسول عن الأردن واحترامهم مصالحه، وذلك بالتوازي مع ادّعائهم المحافظة على الوضع القائم في الأماكن المقدسة في القدس، بينما تواظب مجموعات متطرّفة على استباحة الاقصى بصورة شبه يومية، بما يمس بالوصاية الهاشمية مسّاً مباشراً، إضافة إلى عرقلة التعاملات التجارية الأردنية الفلسطينية. ويسترعي الانتباه أن الاتفاقيات الأردنية الإسرائيلية تشتمل على تعهد إسرائيلي بتعزيز مكانة مطار الملك حسين في العقبة وعدم التشويش عليه، غير أن من شأن رفع وتيرة العمل في مطار رامون في إيلات (أنشئ قبل ثلاث سنوات) التأثير ملاحيا على الحركة في مطار العقبة، مع تشكيل مرفقٍ نظيرٍ ومنافسٍ له، لاجتذاب السياحة الدولية على حساب العقبة ومطارها.

أطراف عربية باتت تعتبر أن الانشغال بالصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي وبحقوق الفلسطينيين موضة قديمة

مع كل هذه المؤشّرات العدوانية، تطمح دولة الاحتلال إلى إقامة سكة حديد سلام تنطلق نحو الأردن، ومنه إلى العالم العربي، علاوة على مشاريع الكهرباء نحوها والغاز منها، فيما يتواتر حديث عن منطقة صناعية مشتركة أردنية إسرائيلية مع أطراف أخرى. وبهذا، نقف أمام مشهد غريب، ففيما تعزّز دولة الاحتلال من نهجها التوسعي والعدواني، فإنها تستعد للانخراط في مشاريع تعاون إقليمي مع الأردن ودول عربية أخرى، وهو مشهدٌ مختلٌّ تبدو فيه دولة الاحتلال على أهبة اختراق العالم العربي من دون أن تتخلى عن عقيدتها العنصرية، بل تبذل كل ما تملك يمينها لتوطيد هذه العقيدة، واعتبارها جزءا من هويتها القومية، ومن ركائز سيادتها القائمة على السطوة المسلحة، وعلى استدراج الآخرين للقبول بالأمر الواقع الشاذّ واعتباره مقبولا.

ولا شيء ينبئ بأن دولة الاحتلال سوف تتراجع عن نهجها الجامح هذا، ما دامت لا تجد معارضة جادّة وملموسة لهذا النهج من المعنيين بالأمر، ابتداء بالسلطة الفلسطينية إلى الأطراف العربية التي باتت تعتبر أن الانشغال بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي وبحقوق الفلسطينيين موضة قديمة، وأن النظر إلى المصالح الآنية المباشرة يتقدّم على أي اعتبار آخر، وبصرف النظر عن عقيدة الدولة الصهيونية ونهجها العدواني الدائم، وعملها المحموم على تصفية الوجود المعنوي والسياسي لشعب عربي برمّته، وازدراء السلام بعد أن تم استنفاد وظيفة هذه الورقة في العبور إلى العالم العربي ونسج أوثق العلاقات معه، ومن دون الإصغاء إلى أي حديثٍ عن المبادرة العربية للسلام وقرارات الأمم المتحدة والاتفاقات المبرمة مع الفلسطينيين، فالحداثة السياسية على الطريقة الإسرائيلية، وأحياناً العربية، تقضي بتجاوز ذلك، والانصراف إلى رؤية تحدّيات الحاضر وفرصه، وبغير الالتفات إلى البيئة العقائدية، وإلى المخطططات المستقبلية، رهن التنفيذ، وليس حمل الفلسطينيين بالترغيب والتضييق على استخدام مطار إسرائيلي، سوى جزء من عملية اختراق العالم العربي، وتصفية الكيانية الوطنية الفلسطينية، وبناء أخوية جديدة في المنطقة بين من كانوا أعداء أزيد من سبعة عقود .. أخوية عربية إسرائيلية.