الانسحاب الروسي من خيرسون... صفقة أم هزيمة؟
لم يكن إعلان وزارة الدفاع الروسية الانسحاب من مدينة خيرسون أمراً اعتيادياً، بعد أن اعتبرها المشرّع الروسي، إضافة إلى ثلاث مقاطعات أخرى، أراضي روسية، ينطبق عليها ما تتطلبه السيادة الروسية على أراضيها. ومبرّرات الانسحاب التي وضعها القائد العام للقوات الروسية في أوكرانيا، الجنرال سيرغي سوروفوكين، ووافق عليها وزير الدفاع، سيرغي شويغو، بعد تنسيق مع القيادة السياسية والقائد العام للجيش الروسي الرئيس فلاديمير بوتين، لم تكن مقنعة للداخل الروسي قبل إقناع الخارج، فقد قال سوروفوكين إن وجود قوات بلاده في منطقة منبسطة ومكشوفة داخل خيرسون يجعلها عرضة للاستهداف ويصعب الدفاع عنها، وهي منطقة بحدود 10 آلاف كم2، وفيها ما بين 20 - 25 ألف مقاتل روسي، والخسائر، إذا ما رُفض قرار الانسحاب، ستكون كبيرة. ومن وجهة نظره العسكرية لا تستحق خيرسون تلك الخسارات الباهظة. وجاء في عرض الجنرال أمام القيادة العسكرية الروسية أن الانسحاب تحتّمه ضرورات عملياتية فرضتها أجواء المعركة وتغيرات موازين القوى، وهي خطوة إلى الخلف تهدف إلى تأمين الحفاظ على 18 ألف كم2 على الضفة اليسرى لنهر دينيبرو مع وجود ساتر طبيعي (عرض النهر من 400 إلى 2000 متر) سيبقي خيرسون ضمن دائرة الاستهداف، وسيسمح للجيش الروسي ببناء نظام دفاعي ثابت ومتماسك، عوضاً عن تكتيك القتال التقهقري الذي قد يتسبّب بخسائر فادحة، لا قدرة للقيادة الروسية على تحمّلها. وقال سوروفوكين إن الانتقال إلى الضفة اليسرى لنهر دينيبرو ليس فقط لتأمين الدفاع عما تبقى من أراضي مقاطعة خيرسون وكامل شبه جزيرة القرم، بل سيقوّي الدفاعات الأخرى من ربط وتشابك أقواس النيران مع المجنبات اليسرى لجبهات القتال في مقاطعتي زابورجيا ودونتسيك، وسيمنع حصار قواته في المدينة، خصوصاً إذا ما نفذ الأوكرانيون تهديدهم بتفجير جسر كاخوفكا على نهر دينيبرو.
وقد عكست تلك المبرّرات، مرّة أخرى، الأخطاء العملياتية، وحتى الاستراتيجية التي وقع فيها الجيش الروسي في مسارح القتال الأوكرانية، ولم يجرِ بعد تجاوزها أو التخلص من تبعاتها، وإلا كيف يمكن تبرير عدم وجود بنية دفاع صلبة في جبهات خيرسون، وهي المدينة الأولى التي سيطر عليها الجيش الروسي قبل قرابة تسعة أشهر؟ وهل اكتشف صانع القرار العسكري الروسي فجأة أن مدينة خيرسون تقع في منطقة سهلية مكشوفة؟ والتبرير هو أن جبهات خيرسون كانت تعتمد تكتيك الهجوم لتجاوز مدينة ميكولاييف والوصول إلى مدينة أوديسا، وبالتالي لم تكن هناك تكتيكات وخطط دفاعية لتلحظ بناء خط دفاعي، وهذا العذر غير مبرّر عسكرياً وغير مقنع بمفردات حروب الجيوش المتطوّرة.
يقول قادة الجيش الأوكراني إن المهمة الآن تنحصر بتطهير خيرسون من فلول الجيش الروسي، وإن هناك خشية من أن تكون بعض المواقع ملغّمة
مرّة أخرى، يظهر للعيان ضعف التخطيط العملياتي وضعف الأداء القتالي للجيش الروسي، ويؤكّد أن هناك ضعفاً واضحاً بإيجاد مخارج ناجعة للتعامل مع منظومات الصواريخ الغربية "هيمارس"، ومنظومات المدفعية (إم 777)، إضافة إلى الطائرات التركية المسيرة "بيرقدار" التي لم تقدّر غرف عمليات الجيش الروسي خطورتها، بعد أن شكّلت ضربة قاصمة للجيش الروسي، وجعلته يضطرّ للانسحاب من خيرسون، كما حصل قبلها على جبهات خاركيف ومحيطها.
يقول قادة الجيش الأوكراني إن المهمة الآن تنحصر بتطهير خيرسون من فلول الجيش الروسي، وإن هناك خشية من أن تكون بعض المواقع ملغّمة، وإن وجهتهم المقبلة ستكون جبهات زابورجيا، وليس ملاحقة الروس إلى ما بعد النهر، وأن هناك ضرورة قتالية وحيوية تحتّم جعل أهداف الجيش الأوكراني في المرحلة المقبلة هي الوصول إلى بريديانتسك وميلوتوبول، والاستيلاء على محطة زابوريجيا، وتلك أهدافٌ إذا ما تحققت ستشكل ضربة قاصمة أخرى لظهر موسكو.
تقول المحللة السياسية والاستراتيجية، إيلينا سوبونينا، وهي المقرّبة من الكرملين ووزارة الدفاع الروسية، إن الانسحاب من خيرسون لا يُلغي أنها جزء من الأراضي الروسية، والانسحاب من ضفة إلى أخرى ليس سحقاً استراتيجياً للجيش الروسي، كما يصوّره الغرب، وأن عملية الانسحاب ستكون استراحة مقاتل يعقبها هجومٌ معاكس ومضاد لاستعادة ما تم الانسحاب منه، ومن ثم تطوير الهجوم بالعمق الأوكراني وصولاً إلى الأهداف التي رسمها بوتين، والمتمثلة جنوباً بإتمام السيطرة على كامل شواطئ بحري آزوف والأسود، ما يعني السيطرة على ميكولاييف، ومن ثم الوصول إلى عاصمة أوكرانيا البحرية في أوديسا.
انتقادات، حتى لبوتين، بما يحصل، خصوصاً بعد إعلانه عن التعبئة الجزئية التي قيل حينها إنها ستقلب موازين القوى العسكرية على جبهات القتال
ولكن سيبوتينا تتشارك الاستغراب مع معظم الشعب الروسي بشأن ما يحصل على جبهات القتال، وتقول إن الشعب الروسي يشعر بالقلق من أن هناك شيئاً غير طبيعي يجري تحت الطاولة، وأن هناك انتقادات، حتى لبوتين، بما يحصل، خصوصاً بعد إعلانه عن التعبئة الجزئية التي قيل حينها إنها ستقلب موازين القوى العسكرية على جبهات القتال، وإن معلومات من داخل روسيا قالت إن الانسحاب كان مقرّراً قبل ذلك زمنياً، لكنه تأخر فقط لعدم منح الديمقراطيين انتصاراً قبل الانتخابات البرلمانية النصفية في الولايات المتحدة. ولا تستبعد "سيبوتينا" أن ما يحصل صفقة سياسية بين واشنطن وموسكو والاتحاد الأوروبي، وأن أصحاب رؤوس الأموال التي تحيط بالرئيس بوتين يريدون صفقة، بعكس بقية الساسة والعسكر... وإلا ما تفسير التساهل الغربي مع شراء الهند النفط الروسي وبأسعار عادية، أو بتخفيف الغرب بعض العقوبات عن موسكو بما يخص تصدير الحبوب؟ وتسأل هل هناك ذوبان لجليد العلاقة المتأزمة بين الغرب وروسيا؟
بالعودة إلى مبرّرات الجنرال سوروفوكين، نجد أن في التاريخ الروسي تجارب سابقة وكانت ناجحة، فمع تقدّم جحافل هتلر في الحرب العالمية الثانية على جبهات الاتحاد السوفييتي، ومع ضعف دفاعات الجيش الأحمر، قرر جوزيف ستالين الانسحاب من بعض المدن الكبرى، ومنها ستالينغراد، والحفاظ على لينينغراد وموسكو، ومن ثم بناء دفاعات قوية والانطلاق بهجوم معاكس، لم يتوقف حينها حتى عاصمة الفوهرر في برلين. وما فعله القائد السوفييتي الميداني، غيورغي جوكوف، في جبهات هتلر قد يكرّره سيرغي سوروفوكين في ميادين أوكرانيا، لأن أهمية خيرسون للروس لا تتمثل فقط في مساحة إضافية يجب السيطرة عليها، بل هي أيضا قيمة دفاعية واقتصادية وموارد طبيعية لشبه جزيرة القرم لا يمكن تعويضها، وخصوصاً في موضوع المياه الصالحة للشرب.
خسارة تكتيكية للروس في خيرسون قد تكون سلّماً يُنزِل بوتين عن الشجرة التي علق فوقها
يشكّل تماسك الجبهات الداخلية في الحروب أحد العوامل الأساسية لتماسك جبهات القتال والانتصار فيها، لكن جبهات الروس الداخلية باتت شبه مفكّكة بعد فرار كثيرين من الشباب والعقول إلى الخارج خشية جرّهم إلى ميادين الحرب. وهناك آلاف الرسائل الصوتية، باتت تنتشر داخل المجتمع الروسي، من جنود إلى أمهاتهم يطالبونهن فيها بمحاولة إعادتهم من الموت المحتّم في ساحات القتال. يضاف أيضاً أن هناك من يتساءل كيف لدولة تصنّف نفسها دولة عظمى، وتحاول أن تقارع الولايات المتحدة على الزعامة، غير قادرة على تأمين مستلزمات الحرب، فتضطرّ تارة لاستيراد الطائرات المسيّرة من إيران التي تقبع تحت عقوبات غربية منذ 40 عاماً، أو تستجدي كوريا الشمالية ببعض الصواريخ. وفي الوقت نفسه، هي غير قادرة على مواجهة منظومات الصواريخ والمدفعية الغربية التي تُقدّم للجيش الأوكراني، رغم أنها تصنّف أسلحة تقليدية عملياتية وليست استراتيجية.
تبقى حتمية القول إن ما حصل مع مفردات الانسحاب من خيرسون، سواء جرى بخطط مسبقة خدمة لصفقة ما مع الغرب، أو اضطرارياً نتيجة ضغط الجيش الأوكراني، فكلاهما هزيمة لموسكو ونصر لكييف. ولكن يبقى أيضاً أن الحرب طالت، ويجب أن تنتهي، وأن صفقة في أوكرانيا قد ينعكس صداها على ملفات عالقة في طهران ودمشق ومواقع أخرى، وأن خسارة تكتيكية للروس في خيرسون قد تكون سلّماً يُنزِل بوتين عن الشجرة التي علق فوقها، وأنه مع الانسحاب، ومع تنازلات متبادلة مطلوبة من الجانبين، قد تنتهي فصول حرب مدمّرة طالت شظاياها كل ساحات الشرق والغرب.