الانتخابات والصراع الاجتماعي في المغرب
لا مبالغة في القول إن الانتخابات الجماعية والجهوية والتشريعية، التي ستجرى أطوارها في المغرب يوم الأربعاء المقبل، تمثل طفرة نوعية في السياسة المغربية، ليس بسبب ما قد تحمله من آمالٍ لتحريك قطار التحوّل الديمقراطي المتوقف، أو إعادة النظر في منظومة السياسات العمومية، بما يسهم في الاستجابةِ لتطلعات المغاربة نحو الكرامة والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون، وإنما بسبب ما تقدّمه من مؤشّرات تستفز الباحثين، سيما في حقل العلوم الاجتماعية، لرصد التحولات التي يشهدها المجتمع المغربي على أكثر من صعيد.
ولعل أكثر ما يلفت الانتباه في هذه الانتخابات اتساع الفجوة بين الشارع والرأي العام والأحزاب السياسية. يتضح ذلك من فائض عدم الاكتراث الذي يُقابِل بها معظم المواطنين العملية الانتخابية التي أضحت، في نظرهم، عنواناً للفساد السياسي. هذا بالتوازي مع حملات تنتعش، على منصّات التواصل الاجتماعي، لتسفيه هذه الأحزاب وفضح انتهازيتها وبؤسها السياسي، فيما يدلّ على إحباطٍ مزمنٍ تراكم على مدار سنوات طويلة، أخفقت فيها النخب في الانعراج بالعمل السياسي إلى حيث يكون في خدمة المواطن المغربي، لا في خدمة شبكات نفوذها التي تتغذّى على الأعيان وأصحابِ النفوذ ودوائرِ الرأسمال المشبوه. وأسهمت، بذلك، في ترسيخ بنيات السلطوية المغربية، سيما أنها ظلت دائماً مناهضة للديمقراطية، سواء في انتخاب هياكلها، أو في الآليات التي تأخذ بها لترشيح أعضائها لمختلف الاستحقاقات الانتخابية. والظاهر أن هذه الأحزاب لم تعد تكترث لشيء، بعد أن سقطت ورقة التوت عنها، لا فرق في ذلك بين اليمين والوسط واليسار. والدليل على ذلك أن الأعيان وأباطرة الانتخابات باتوا، بحكم نفوذهم الاجتماعي والمالي، الورقة الرابحة التي تمكّنها من حصد أكبر عدد من المقاعد. ومن الواضح أن رهانها على هؤلاء لم يُفقدها، فقط، مصداقيّتها لدى الرأي العام، بل صار يُغذّي خطاباً مناهضاً لها داخل المجتمع، يتخذ شكل تعبئة اجتماعية موازية تنتعش، بشكل خاص، داخل العالم الافتراضي.
بيد أن هذه الفجوة، وإنْ تحيل إلى أزمة بنيوية في السياسة المغربية، إلا أنها في المقابل تحيل إلى تحوّلات قيمية يشهدها المجتمع، خصوصاً داخل الطبقة الوسطى التي يفترض أنها تعبر عن تطلعٍ بادٍ نحو مكافحة الفساد والتوزيع العادل للسلطة والثروة، فقد أفضى انسداد الآفاق وشحّ الموارد وتقلصُ نسبة التوظيف القطاع العام إلى تحوّل العمل السياسي إلى فرصة للاغتناء والترقي الاجتماعي وحيازة موارد الوجاهة والنفوذ والسلطة، في مجتمع سلطوي لا يرحم. وبذلك أصبحت اللحظة الانتخابية مؤشّراً دالاً على هذه التحولات القيمية التي تفسّر، إلى حد كبير، حالة التصدّع التنظيمي التي أصبحت تشهدها معظم الأحزاب قبل أي استحقاق انتخابي. وهو تصدّع ناجم عن التناقض بين الحسابات السياسية والاجتماعية والشخصية التي تحكم القيادات الحزبية في علاقتها بالأعيان والرأسمال، وحسابات أعضاءٍ عاديين (مناضلين؟) قضوا سنواتٍ في صفوف هذا الحزب أو ذاك، منتظرين دورهم في التنخيب المحلي أو الوطني، الذي لا يتيح، فقط، نقلة اجتماعية نوعية، بل يتيح، أيضاً، الاستفادة من امتيازاتٍ ومنافع لا تعد ولا تحصى. وقد كانت لافتة استقالة عشرات ''المناضلين'' من أحزاب قضوا فيها سنوات طوالاً، لأنها لم تمنحهم التزكية ليتصدّروا لوائحها الجماعية والجهوية والتشريعية، ليحطّوا الرّحال في أحزابٍ أخرى لا يربطهم بها أدنى رابط فكري أو أيديولوجي، لكنها تمنحهم التزكية لتصدُّر لوائحها، وبالتالي إمكانية الفوز الذي يسمح لهم بالانتماء إلى النخبة المحلية أو الوطنية، أو تأمينِ وجودهم داخلها إذا كانوا يتطلّعون إلى ضمان ولاية أخرى.
أصبح تغيير الانتماء الحزبي عنواناً صارخاً لأزمة العمل السياسي في المغرب، إذ لم يعد الالتزام الفكري والأيديولوجي يعني شيئاً لمزاوليه أمام بريق المقاعد والمناصب. وبذلك أصبحت الانتخابات تعكس طوراً جديداً في الصراع الاجتماعي بين الطبقة الوسطى .. وشبكة الأعيان وأباطرة الانتخابات، خصوصاً في ضوء القدرة التي أبانت عنها السلطويةُ المغربية في تشكيل الحقل السياسي وتوجيه أطواره من الأعلى.