الانتخابات الأميركية... المال يصنع ديمقراطية الأثرياء

03 سبتمبر 2024

ترامب وماسك في احنفال بإطلاق "سبيس إكس" صاروخ فالكون 9 إلى الفضاء (Getty 30/5/2020)

+ الخط -

يلعب المال دوراً أساسياً في الانتخابات الأميركية، حتّى قيل إنّ "المال لبن السياسة في الولايات المتّحدة"، في إشارة إلى حضوره القوي في توجيه الشأن السياسي، تماشياً مع البيئة السياسية الأميركية المنفتحة، وبشكل غير طبيعي، على الاستخدام السياسي للمال. فقد بات النفوذ المتنامي للمال كابوساً مُتكرّراً، في كلّ دورة انتخابية، رئاسيةً كانت أو نيابيةً، مع تزايد أعداد رجال الأعمال الذين سخَّروا أموالهم للعبة الديمقراطية.
يعدّ النظام في الولايات المتّحدة، خلافا لأغلب النظم السياسية في العالم، نظاماً مفتوحاً، يسمح بمساهمة المال في تشكيل الأجندة السياسية للمرشّحين إلى جانب الصراع الأيديولوجي، بل ويحدث أن يتفوّق عليه أحياناً، ما يثير الأسئلة عن سطوة المال على السياسة، وينزع كثيراً من المصداقية عن فكرة الليبرالية التي تزعم أنّ المواطنين يملكون حظوظاً متساوية في اختيار من يمثّلهم في السلطة.
حضور المال في "سوق" السياسة في الولايات المتّحدة ليس بالحدث الطارئ، فقد سبق للأكاديمية البريطانية نورينا هيرتس أن كشفت تفاصيلَ مثيرةً عن ذلك، في كتابها "السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية" (2002)، بحديثها عن الدور الأكبر للمال في تبوّء المراكز الأولى في المشهد السياسي الأميركي، فـ"العلاقة بين الهِبَات المُقدّمة للحملات والأصوات في الكونغرس تكاد تكون بلا نهاية".

يُتوقّع أن يتخطّى الإنفاق في انتخابات أميركا 2024 سقفَ 20 مليار دولار، مع توالي اهتمام رجال الأعمال بالتنافس الانتخابي

ظهرت هذه الممارسة، في التاريخ السياسي الأميركي، في ثلاثينيّات القرن التاسع عشر، مع الرئيس أندور جاكسون (1829-1837) الذي كان أوّل مُرشّح رئاسي يُنفق مبلغاً كبيراً (مليون دولار) في تدبير الحملة الانتخابية، قبل أن تتغيّر القواعد بدءاً من سبعينيّات القرن الماضي، مع تزايد حجم الإنفاق، وكذا طبيعة المساهمين فيه، دورةً بعد أخرى، حتّى بات تجاوز الرقم القياسي السابق في التمويل، رهان الحزبَين (الديمقراطي والجمهوري) عند كلّ محطة انتخابية.
كسرت الحملة الانتخابية الرئاسية مع المُرشّح باراك أوباما سقف المليار دولار، خلال ولايته الثانية عام 2012، ضدّ المُرشّح الجمهوري ميت رومني، واعتبر ذلك حينها إنجازاً تاريخياً في الرئاسيات، علماً أنّ حملة الحزب الديمقراطي في عام 2008 قد نجحت في جمع 1.2 مليار دولار، كان نصيب أوباما (الرئاسة) منها 778 مليون دولار. قفز المبلغ في انتخابات عام 2016، الرئاسية والتشريعية والمحلّية، إلى سبعة مليارات دولار، واستقرّ في آخر محطّة انتخابية، عند حدود 15 مليار دولار، منها ستة مليارات دولار للرئاسيات، فيما ذهب الباقي، أي تسعة مليارات دولار، إلى انتخابات الكونغرس وحكّام الولايات والانتخابات المحلّية.
يُتوقّع أن يتخطّى الإنفاق في انتخابات 2024 سقفَ 20 مليار دولار، مع توالي اهتمام رجال الأعمال الكبار بالتنافس الانتخابي، دعماً لهذا المُرشّح أو ذاك، فأموال المليارديرات تتدفّق لتجعل هذه الانتخابات الأغلى في التاريخ الأميركي. وتحدّث الأكاديمي روبيرت رايش (وزير العمل الأميركي الأسبق) في مقال في صحيفة الغارديان عن ضخّ 50 عائلة أميركية فقط لأزيد من 600 مليون دولار في هذه الدورة، معظمها لصالح الحزب الجمهوري.
يبقى الملياردير إيلون ماسك أشهر هؤلاء المليارديرات، فقد استضاف في منصّة إكس، أواسط الشهر الماضي، المُرشّح الجمهوري دونالد ترامب في لقاء مفتوح لأزيد من ساعتَين. وقبل ذلك بأسابيع قليلة، أقام حفلَ عشاء ضمّ عدداً من رجال الأعمال، بهدف إعادة تثبيت ترامب في البيت الأبيض. كما قدّم تبرّعاً سخياً، لمجموعة عمل سياسي تعرف باسم America pac، تركزّ جهودها في دعم حملة ترامب، في تحوّل دراماتيكي من رجل أعمال طالما أعلن استقلاله السياسي بعيداً من الصراعات الحزبية.
تتلقّى الحملات الانتخابية التبرّعات من الأفراد بشكل مباشر، لكن في حدود 3300 دولار لكلّ مُرشّح، بزيادة قدرها 400 دولار عن آخر استحقاق انتخابي، ولمرَّتَين فقط؛ أي أنّ سقف التبرع لن يتجاوز 6600 دولار ما بين الانتخابات التمهيدية والانتخابات العامّة. وكان السيناتور عن ولاية فيرمونت، بيرني ساندرز، أشهر مجسّد للتمويل الشعبي في التاريخ الانتخابي الأميركي، بعد حصوله على 60 مليون دولار من إجمالي 107 ملايين دولار من تبرّعات تقل عن 200 دولار.
كما تتلقى تلك الحملات التمويل من طريق اللجان التي لها حقّ الحصول على أموال عامّة من دون تسقيف، شريطة الاحتفاظ بسجلّات مفصّلة لأنشطتها المالية، قصد عرضها بعد الانتخابات أمام لجنة الانتخابات الفيدرالية. تبقى هذه الشفافية ناقصةً، فهي تتعقّب المال في المآل فقط، ولا تبحث عن مصادره الحقيقية، إذ بمقدور اللجان تلقّي الأموال من جهات مختلفة من دون الكشف عنها. وتعزّز الأمر أكثر عام 2010 بعد قرار المحكمة العُليا في قضية "المواطنون المتّحدون"، ما فتح الباب أمام التمويل الخفي أو الأموال المُظلِمة.
رغم أنّ هذه الأموال شرعية وقانونية، فإنّ مصدرها المباشر غير معروف، فالمتبرّع، فرداً كان أو شركة عملاقة أو مجموعة ضغط، يقدّمها مباشرة من طريق التبرّع إلى مؤسّسات غير ربحية في بداية الأمر، قبل أن تتولّى هذه الأخيرة إعادة التبرّع إلى المُرشّح أو الحزب المفضل لدى المانح الأصلي. بذلك يكون مصدر المال لدى الرأي العام هو المؤسّسة غير الربحية، وليس المتبرّع الحقيقي.
أنعش دخول المليارديرات في الخطّ تدفّق هذا الصنف من الأموال نحو الحملات الانتخابية للمُرشّحين، فالمراقبون يتوقّعون أن يحضر المال المُظلِم بمعدَّلٍ أكثر من أيّ دورة انتخابية سابقة. توقّعات زكّاها فسح المجال أمام التمويل الرقمي بإعلان حملة المُرشّح دونالد ترامب، أواخر شهر مايو/ أيّار الماضي، قبول التبرّع بالعملات المُشفَّرة، ليصبح بذلك أوّل سياسي أميركي يقبل هذا الصنف من التمويل في حملته الانتخابية.

يشعر الأميركيون بأنّ اللعبة الديمقراطية خضعت للتزوير، وأصبحت رهينةً بين أيدي الأثرياء فقط

التحوّل الأيديولوجي في ثقافة شركات التكنولوجية مُعطىً من شأنه تعزيز حضور هذا المال، فوادي السليكون المعروف منذ فترة طويلة بزعماء لهم توجّهات يسارية باتوا الآن أقلَّ ليبرالية، بعد اختيار أغنى مستثمري التكنولوجيا (إيلون ماسك وبيتر ثيل وبن هورويتز وآخرين) دعم دونالد ترامب، مُرشّح الحزب الجمهوري. فيما فضّل آخرون (هوفمان وهاستينغز وساندبرغ وليفي...) دعمهم كامالا هاريس، المُرشّحة باسم الحزب الديمقراطي.
خلف ذلك شعوراً لدى الأميركيين مفاده أنّ اللعبة الديمقراطية خضعت للتزوير، وأصبحت رهينةً بين أيدي الأثرياء فقط، فالتبرّعات الانتخابية التي تصل إلى مبالغ من سبعة أرقام، لا تعتبر تبرّعاً، بقدر ما هي "فواتير مؤجلة" يلتزم المُرشّح أو الحزب بسدادها بعد الفوز، بدعم وحماية مصالح الأقلّيات المانحة، وليس بدعم المصلحة العامّة للشعب الأميركي.
يمثّل شراء الانتخابات بالمال، دعما لهذا المُرشّح أو تصدّياً لذاك المُرشّح، على غرار ما تعرّض له داعمون للقضية الفلسطينية من اللوبي الصهيوني (خصوصاً من أيباك)، إضافة إلى ديكتاتورية الحزبَين؛ أي نظام الثنائية الحزبية التي تهيمن على الانتخابات كافّة (الرئاسية والتشريعية والمحلّية)، وفكرة المجمّعات الانتخابية، التي قد تكون سبباً وراء منع الفائز بأصوات الناخبين من الرئاسة، أمثلة عن الأعطاب والاختلالات التي تفضح حقيقة الديمقراطية الأميركية (؟).

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري