الاقتراب من خطّ اللاعودة في السودان
كان من السهل في سنوات تحالف قائدي الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان والفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، منذ إبريل/ نيسان 2019 حتى إبريل 2023، أن ترى اتجاه المكوّن العسكري إلى التشبّث بالسلطة، وعدم الرغبة في تسليمها للمدنيين. تعامل المكوّن العسكري مع اتفاق الوثيقة الدستورية الانتقالية التي حدّدت تفاصيل الشراكة العسكرية المدنية، باعتبارها هجوماً معادياً حاول استيعاب موجته الأولى، ثم وضع "العدو" في مرحلة استنزاف طويلة حتى فجر 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 عندما تحرّك المكوّن العسكري، واعتقل القيادات المدنية، وأعلن انفراده بحكم البلاد.
شكا القائدان العسكريان أكثر من مرّة قبل الانقلاب (في مرحلة تهيئة الرأي العام لقبول التدخّل العسكري) من أن "سلطة المكوّن العسكري تشريفية" حسب اتفاق الوثيقة، وحرصا على التأكيد أن غلّ يد المكون العسكري من العمل التنفيذي هو سبب الأزمة الاقتصادية والأمنية. لذلك اختار القائدان لانقلابهما وصف "تصحيح مسار الثورة".
اليوم، بعد مرور عام على الحرب، تبدو رغبة قيادة الجيش في الحكم أوضح وأقرب. بينما يدور "الدعم السريع" في دائرة خرافية يحشد فيها عشرات السرديات غير المتسقة لينشئ صورة وهمية لمليشيا تقاتل فلول النظام السابق لصالح التحوّل الديمقراطي (!). ولكن بعيداً عن السرديات المتوهّمة، يقول الواقع إن قوات الدعم السريع التي استولت على مساحاتٍ واسعة من البلاد، وسيطرت على أغلب العاصمة وأكبر المدن والولايات السودانية، لم تحم فيها المواطنين، ولا قدّمت نموذجاً لإدارة حياة الناس، ناهيك عن إدارة دولة أو شبه دولة. بل على العكس مارست قوات الدعم السريع انتهاكاتٍ وجرائم حرب وسرقاتٍ ونهبٍ واعتداءات، مع رغبة في تفريغ أماكن سيطرتها من المدنيين الذين لا يحتاجون لتشجيع كبير للنزوح مع تقدّم المليشيا.
قيادة الجيش، مثل حليفها السابق وعدوها الحالي، لم تكن ترغب في تسليم السلطة قبل الحرب، ولا تنوي تسليمها بعد الحرب. لكنها بعكسه تمتلك سلطة الأمر الواقع، لذلك كان من السهل على عضو المجلس العسكري (الحاكم)، الفريق ياسر العطا، أن يطلق التهديدات ضد القوى المدنية ويتهمها بأنها غير مؤهلة للحكم، لأنها أحزاب غير ديمقراطية.
بدأت الفترة الانتقالية في السودان بآمال عظام، وتحالف يضم المكوّن العسكري (الجيش السوداني وقوات الدعم السريع) وتحالف الحرية والتغيير (الأحزاب المدنية المؤيدة للثورة)، ثم توسّع ليضم حركات سلام جوبا (حركات الكفاح المسلّح الدارفورية التي قاتلت نظام عمر البشير، وتأسّست قوات الدعم السريع لمواجهتها). ثم بدأ التحالف يتآكل بخلافات داخل تحالف الحرية والتغيير، ثم انحياز حركات السلام للمكوّن العسكري لإطاحة المدنيين. ثم انقسم المكوّن العسكري على نفسه بالحرب، وتفكّك موقف حركات السلام بين دعم الجيش السوداني والدعوة إلى وقف الحرب والحياد.
وأدّى تعثّر الجيش في الحرب إلى انتشار ظاهرة تسليح المواطنين المدنيين، وهو ما يحاول الجيش السيطرة عليه بإخضاع المقاومة الشعبية لسيطرته، ولتعمل حسب توجيهاته. بينما تتمرّد أصوات ترى أن تكوين مليشيات مدنية للمقاومة المسلحة يجب أن يكون بمعزلٍ عن الجيش، لتفادي تكرار مسار الحرب السابق، وتعثّر العمليات الحربية.
نحن، إذن، أمام عملية تسليح واسعة، بلا رؤية سياسية جامعة، في حرب ارتُكبت فيها جرائم وثقتها المؤسّسات الحقوقية الدولية، مثل المذابح العرقية التي ارتكبتها قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها، وعمليات القصف الجوي التي يقوم بها الجيش. ووثّق تقرير "هيومن رايتس ووتش" قبل أسابيع الانتهاكات التي يرتكبها طرفا الحرب، كما يمكن بجولة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي مشاهدة عشرات الفيديوهات لجرائم يوثّقها مرتكبوها بفخر، كتمثيل "الدعم السريع" بجثة والي غرب دارفور، أو فيديوهات ذبح جنودٍ من الجيش جنوداً من المليشيا والاحتفاء برؤوس مقطوعة.
هذه وغيرها أمور لا يحسمها قرار، ولا يغيرها اتفاق وقف إطلاق نار، فالسلاح المنتشر بين المواطنين، وغياب الرؤية السياسية للحرب ولإدارة الدولة ولما بعد الحرب، وتراكم العداوات، والثأر بين مكوّنات قبلية تعيش سلفاً في مجتمع متقاتل على الموارد الشحيحة، كلها أمور تجعل احتمال استمرار الحرب ضد رغبة أطرافها وارداً. لذلك ليس على الوساطة الدولية فقط أن تجبر الطرفين على توقيع اتفاق وقف إطلاق نار، إنما من الضروري أيضاً محاصرة تداعيات الحرب التي تجعل استمرارها وتصاعدها غير مرهونٍ ببنادق طرفي الحرب فقط.