الاستعصاء السوري مستمرّ

25 ديسمبر 2022
+ الخط -

تعاني مناطق سيطرة الحكومة السورية من أزمة اقتصادية خانقة، بسبب شحّ المشتقات النفطية، ما أدى إلى تهاوٍ دراماتيكي في سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، وقلة في القطع الأجنبي لدى المصرف المركزي، خصوصا أن عوائد بيع المشتقات النفطية للمواطنين تشكل أهم موارد خزينة الدولة؛ وهذا انعكس على الشعب في اشتداد الأزمة المعيشية، وعودة الاحتجاجات المطلبية إلى مدينة السويداء، وبوادر احتجاج خجولة في محافظات أخرى. لا يمكن التعويل على انتفاضةٍ شعبيةٍ في مناطق سيطرة النظام تُحرّك الركود السوري حالياً؛ ليس بسبب قمع النظام الوحشي وحسب، لكن لأن هناك حالة من فقدان الأمل لدى الشعب، بسبب التجربة القاسية والدموية والفاشلة التي خاضتها انتفاضة 2011، والتي انتهت إلى سورية دولة فاشلة، محتلة من عدة دول، ومقسّمة إلى مناطق نفوذ تحقّق مصالح تلك الدول، ومعارضة مكرّسة أكثر رثاثةً من النظام، وغياب أي عملٍ سوريٍّ فكري وتنظيمي يمكن التعويل عليه في وضع برامج مستقبلية. 
يعترف النظام السوري بأزمته الاقتصادية، وقد أقرّ أيام عطل إضافية لمؤسسات الدولة والمدارس والجامعات، وأوقف الأنشطة الرياضية ورفع سعر المحروقات المدعومة، وهي غير متوفرة، وكأنه يقوم بنفسه بإضراب جزئي؛ فشلل الدورة الاقتصادية لا يعني انهيار النظام نفسه، رغم تأثّره به، طالما أن الدول الداعمة له باقية على موقفها، بل يعني انهيار الدولة، بينما يستفيد المقرّبون من العائلة الحاكمة من الأزمة في تجارة المحروقات في السوق السوداء، وبفرض الإتاوات على كل الفعاليات الاقتصادية. والأهم من ذلك تجارة المخدّرات، برفقة حزب الله اللبناني، التي ذكر تحقيق مجلة ديرشبيغل الألمانية أن أرباحها تجاوزت الخمسة مليارات دولار عام 2021. ويحذّر مسؤولو النظام من انهيار الدولة، للضغط على الغرب لرفع العقوبات، ومن أجل استجرار أموال التعافي المبكّر الواردة في قرار دولي يخص المساعدات الإنسانية الدولية، التي يجب تجديدها في 10 الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني).

الأرجح أن تأخّر روسيا في نجدة النظام بالمحروقات هي للضغط عليه لقبول ما يتوافق عليه الروس والأتراك

ما يمكن أن يحرِّك الستاتيكو السوري هو المتغيرات الدولية التي قد تغيّر حسابات الأطراف المتدخلة في الشأن السوري، خصوصا أن تلك الأطراف معنية مباشرة بما يجري على الساحة الدولية، فروسيا منغمسة في حربها الأوكرانية، وأوروبا تئن تحت وطأة شحّ الوقود وغلائه، وتوقفت المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني، بينما تنشغل طهران داخلياً بكيفية مواجهة زخم الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة. وتركيا تريد استغلال الوضع الدولي في لعب دور وسيط في الحرب الأوكرانية، على صعيد الجمع بين الطرفين للتفاوض، ولتمرير الحبوب الروسية والأوكرانية، والأهم الوساطة في تمرير موارد الطاقة عبر خطوط الإمداد التي تمرّ عبر أراضيها؛ لكنها، وبسبب أولوية الانتخابات بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، تتخبّط في الملف السوري، بين انتهاز فرصة الانشغال الدولي بالحرب الأوكرانية لشنّ هجوم على الشمال السوري، والسيطرة على تل رفعت ومنبج وعين العرب، لتأمين حدودها الجنوبية من "الخطر الكردي"، وإعادة مليون لاجئ سوري، وبين الطروحات المكثفة للرئيس أردوغان بشأن المصالحة مع نظام الأسد، بوساطة روسية، ضمن ما سمتها "آلية ثلاثية لتسريع الدبلوماسية" مع دمشق. ونظام دمشق يتمنَّع تلك المصالحة، ويتواصل مع حزب الشعب التركي المعارض، المنافس لحزب العدالة والتنمية في انتخابات الصيف المقبل، بينما تضغط موسكو عليه للقبول، من أجل تحقيق مكاسب التنسيق مع الأتراك، لتمكين النظام من السيطرة على الشريط الحدودي، والعودة إلى اتفاق أضنة بعد تعديله؛ والأرجح أن تأخّر روسيا في نجدة النظام بالمحروقات هي للضغط عليه لقبول ما يتوافق عليه الروس والأتراك.

يمكن لانتفاضة سورية جديدة أن تدفع إلى حل سياسي، وإلى حينها سورية، التي يتسارع انهيارها كل يوم، منسية في مهبّ الريح

قد تصل إلى سورية دفعة جديدة من النفط الإيراني الشهر المقبل، وعلى الأرجح أن طهران تضغط على دمشق، لمنع المصالحة مع تركيا، ولعرقلة التقارب مع العرب، وبسبب الغارات الإسرائيلية على مواقعها في سورية. في كل الأحوال، تتمسّك طهران بالنظام، لأنه ضمانة لوجودها في سورية، ولم يصل تأزّم النظام في إيران بسبب الاحتجاجات الشعبية إلى درجة تهديد وجوده، حتى نبدأ بالتفكير بتراجع اهتمام إيران بنفوذها في سورية، رغم سحبها بعض المليشيات من الأراضي السورية، كما أن ما ترسله من محروقات لا يشكل رقماً يؤثر في اقتصادها، خصوصا أن العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها تمنعها من تصدير ما تنتجه. وبالمثل، من المبكّر الحديث عن تفكير موسكو بالانسحاب من سورية بسبب الحرب الأوكرانية، رغم سحبها طواقم جنود ومنظومات دفاع ومليشيات فاغنر، والدليل اهتمامها الكبير بملف الشمال والتفاوض مع أنقرة. ورغم ما تتلقاه روسيا من ضرباتٍ من الأوكرانيين المدعومين بسخاء من حلف الناتو، وقد يحصلون على منظومة باتريوت الأميركية، إلا أن الرئيس الروسي بوتين يجدّد القتال، ويستفيد من الحاجة الأوروبية إلى المحروقات مع بدء الشتاء، ولم يصل الصراع هناك إلى ذروته للتفكير بالحلول.
لا تدفع واشنطن كلفة كبيرة في تدخلها في سورية، لأنها جاءت، وهي باقية، برفقة تحالف دولي لدعم قوى محلية (قوات سوريا الديمقراطية "قسد")، لقتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهدفها الآن، إضافة إلى محاربة "داعش"، الإمساك بكل خيوط اللعبة السورية للحفاظ على حالة التوازن بين مناطق النفوذ، وتشكيل ضغوط إضافية على موسكو وتركيا، من دون أن تتبنّى سياسة فعلية تدفع إلى حلٍّ سياسي شامل، وتكتفي بالعقوبات على رموز النظام، وستُصدر قانون مكافحة تجارة المخدّرات، ما يعني معارضتها كل محاولات التطبيع معه. رفضت العملية العسكرية التركية الجديدة، وتعمل على عرقلة التوافقات الروسية التركية الجديدة، وتقدّم مزيدا من الدعم لحلفائها في "قسد"، وأنباء عن إعادة تمركزها في الرقة. وفي النهاية لا يمكن أن يمرّ أي تقارب يغيّر من جغرافية السيطرة على الأرض السورية من دون التنسيق معها. وهذا يعني أن لا قيمة متوقعة من تصالح أنقرة مع دمشق إلا بحل سياسي تشارك في صياغته كل الأطراف. وهذا الحل مرهون بأن يصل الصراع في أوكرانيا إلى أقصاه، وأن تُحدِث الانتفاضة الإيرانية فارقاً يهدّد نظام الملالي، وحينها سيتلمس الشعب السوري تلك المتغيرات. ويمكن لانتفاضة سورية جديدة أن تدفع إلى حل سياسي، وإلى حينها سورية، التي يتسارع انهيارها كل يوم، منسية في مهبّ الريح.