الاستئناف العربي للحوار الإسلامي العلماني
أطلق رفيق عبد السلام دعوة مفتوحة إلى الانضمام إلى مشروع فكري جديد، تحت مسمّى هيئة الوعي العربي، وهو وزير خارجية تونسي أسبق بعد الثورة في بلاده، وناشط سياسي في محاولة الاسترداد الديمقراطي لتونس، ومن خلال البيان التأسيسي الأولي يتّضح أن مشروع الهيئة فكريٌ ثقافي لا قُطري تنفيذي، وبالتالي، يبتعد عن التأطير السياسي الحزبي للدول العربية، أو الانغماس في صراعها الميداني.
ورغم أن المشروع يعتني بخلاصات تجربة الربيع العربي، للاستفادة من أخطاء المرحلة، ولإيجاد بيئة فكرية مشتركة بين الأطياف، تُعزّز ما أُطلق عليه فكرُ الإصلاح، في دلالةٍ على حرص الهيئة على الخطاب المعتدل والحذِر، لكنه بالطبع يسمّي بوضوح أزمة الوطن العربي، في كارثة هيمنة نماذج الدكتاتورية والحكم الفردي المطلق، والذي يقوم على اعتساف الرأي وفرضه على الشعب، وقمع أصحاب الرأي والمناضلين الحقوقيين والإصلاحيين.
وهي مهمة ضخمة، لكن الهيئة تضعها في إطار حواري ثقافي، ولا تتبنّى وعوداً تنفيذية، فحسب فهمي هي محاولة جادّة لتحريك ذلك الجمود الضخم، في آليات الحوار العربي - العربي في مساحات التوافق المجتمعي وضروريات السلم الأهلي، ومقدّمات الانتقال الحقيقي للدولة المدنية، والحياة الدستورية الحقوقية، وتنظيم الخلاف حول مرجعياتها الفكرية والقانونية. وهذا الباب وحده يكفي لمواسم كبيرة، من التفاعل الثقافي في المؤتمرات الافتراضية، أو الحضورية التي لا يزال هناك طريقٌ طويل لتحقيق إمكانيات تنفيذها، والتي ربما تساعدها روح المشاركين وآليات التفاعل التقني، في المرحلة الأولى من انطلاقة الهيئة.
ولكن الدافع لدعم رؤية رفيق عبد السلام، وخصوصا من خلال ما يمثله بوصفه مفكّرا عربيا هو العودة لوصل الجسور المقطوعة بين العلمانيين والإسلاميين العرب، وتفعيل فريضة القرآن في الحوار، وتدبّر العقل الإنساني فيه، وهي رسالةٌ عُطّلت كثيراً، رغم أنها تَبرز لنا في كل أزمة. فلم تكن ثورة يناير في مصر، التي عبرت سلمياً وحافظت على استقرار الدولة وسيادتها لتسقط، في كوارث اقتصادية وحقوقية وتخلف سياسي، وخصوصا من خلال قوائم القتل خارج السجون وداخلها، ثم شحن المعتقلات من المخلصين الوطنيين، لولا استثمار الصراع العلماني الإسلامي، وفي تونس أسقط انقلاب قيس سعيّد روح الثورة وحلمها الكبير، وكان أيضا بعد مواسم صراع ضخمة مماثلة.
في سورية، استُخدم الصراع العلماني الإسلامي أرضيةً لتفرقة المعارضة، وتغييب الرؤية الإستراتيجية
وفي سورية، استُخدم الصراع العلماني الإسلامي أرضيةً لتفرقة المعارضة، وتغييب الرؤية الإستراتيجية، وأدّى هذا الغياب إلى تضخّم مجموعات العمل المسلح التي كانت تُستثمر خارجياً، وساهمت في تغطية مذبحة النظام التاريخية، وإسقاط مشروع الثورة السياسي الممكن. وحينها استُغلت عسكرة الميدان ليُضرب شعب الثورة، وتُحوّل قضية اللاجئين إلى أزمة بذاتها، داخل سورية وخارجها، ويُنقذ النظام الإرهابي من جريمته.
وهناك نماذج أخرى خارج إطار الصراع المركزي لإسقاط النظام، مثّل فيها الخلاف العلماني الإسلامي في الوطن العربي سلسلة من التفرّق الاجتماعي السياسي، الذي عزّز الفساد ومنع توحيد الجهود، لدفع الدولة القائمة إلى التقدّم نحو المشاركة الشعبية، وزيادة الحقوق المشروعة، لتكون آلة تمثيل الشعب أيقونة تفاعل حيوي، تُنقذ المواطن من تسييس القانون كآلة قمع، أو سرقة أموال الناس وتحويلها لنخبة الحكم. هذا فضلاً عن ضرورات الأرضية الجامعة التي تُنشئ منظومة قيم وطنية إنسانية، يستظل بها كل الشعب، والذي بعثره الجدل العقيم، في فهم الفرق بين أحكام الإسلام الفردية الشخصية وقاعدة التشريع القانوني فيه، المتصلة بحق الإنسان وكرامته، ومساحته الواجبة في التعبير عن رأيه، وفي مساهمته في المشاركة الشعبية.
ورغم عظم تأثير هذا الصراع، وأن كثيراً منه يضيع تحت ضخّ الملاعنات واللغة الشعبوية في مواسم "تويتر" وغيره، والتي بعضُها تحرّكه أطراف مشبوهة، إلا أن غياب الحوار لحلّه ساهم في ضياع تحديد موضع الخلاف في التقنين الدستوري، وفي حقّ السلوك الشخصي، وفي تحرير المصطلحات ذاتها، وكيف يتم التوافق عليها في إطار وطني جامع، فوق العرق والمذهب والتوجه الفكري أو السياسي.
لتبقَ قضية فلسطين والموقف من الحركة الصهيونية، ومشاريعها المتعدّدة على الأرض العربية، ميثاقا جمعيا عربيا
وتشير وثيقة هيئة الوعي العربي إلى قضية مهمة، وهي المأزق الطائفي الذي يعاني منه المشرق العربي، وهو مسارٌ مهم يجب أن يُعزّز فيه فصل الحق الشخصي والسياسي والدستوري، وشراكة كل شرائح الوطن العربي، في تعريف المثقف وحقّ جدله ومساهمته، والجماعة الوطنية التي تنتمي لهذا المذهب أو ذاك. غير أن هناك مسألة حسّاسة في هذا المضمار، تحتاج الهيئة أن تضبط لغتها فيه، وهو الفرق بين المشروع السياسي القائم المشتبك في الأرض العربية بكل أقطارها ذات الشأن ومفهوم المجتمع الوطني المحدد ومرجعه الدستوري.
ولا حرج في التكييف الفكري لموقفنا من جمهورية إيران، كجوار لشعب مسلم ودولة تحتضن عدة أعراق ومذاهب، والإيمان بعهد السلام معها، والتعاون في المشتركات ومصالح الشرق، ورفض أي دعوات حربٍ للغرب عليها، لكن ذلك كله لا يُمكن أن يشمل ثقافة الاعتذار والتمييع لدور إيران، لبأسها الشديد الطائفي والسياسي الواضح على الشعوب العربية، فالهيئة هنا، لكي تضمن توسعة المشاركة فيها، يجب أن تتعامل بحذر بالغ، وتُركّز على أولويات المجتمع العربي الوطني الداخلي، والذي لمساحة كبيرة منه رأي حاسم تجاه المشروع الإيراني. وفي المقابل، نرفضُ مسّ كرامة الإنسان العربي الشيعي، وحقه السياسي والديني بناء على صراعنا العميق مع إيران.
ولتبقَ قضية فلسطين والموقف من الحركة الصهيونية، ومشاريعها المتعدّدة على الأرض العربية، ودور الكيان الغاصب ضد أهلها وأقصاها وأرضها، ميثاقا جمعيا عربيا، لا يُفرّط به، ولا يخضع لأي مواسم وظيفية تستثمرها طهران ولا غيرها.
وتحتاج الهيئة أن تَحذر من مزلقين خطرين، تحوّلها إلى دور وظيفي سياسي إقليمي أو عربي، أو أن تكون منصّة بروباغندا صاخبة في الصراع من الأنظمة، تسقط فيها إستراتيجية التأهيل الفكري، وتخسر قيمتها كما خسرت مشاريع أخرى، لتبقى، في كل الأحوال، رسالة نوعية للوعي العربي لفريضة غائبة ندعو للهيئة التوفيق فيها.