الاحتلال يريق دماء الفلسطينيين لتغطية فشله السياسي والأمني
صعّد حكام إسرائيل عمليات بطشهم ضد الشعب الفلسطيني، وأطلقوا العنان لجيش الاحتلال، والمستعمرين المستوطنين، لارتكاب الإعدامات الميدانية ضد المقاومين الفلسطينيين والمدنيين الأبرياء، بمن فيهم النساء والأطفال، في محاولة للتغطية على فشلهم الأمني والاستخباراتي في مواجهة عمليات المقاومة الفردية، والذي يُضاف إلى فشل مخططاتهم ومشاريعهم السياسية. وتجاوز جنود الاحتلال كلّ الحدود بممارستهم القتل البشع والمتعمّد للأرملة الفلسطينية، غادة سباتين، أم الأطفال الستة، وعمرها 46 عاماً، وهي تعاني من عجز في الرؤية، ولم يكتفوا بإطلاق الرصاص عليها من دون مبرّر، بل تركوها، مثل كل الضحايا الفلسطينيين، تنزف حتى الموت من دون أن يسمحوا لفرق الإسعاف والأطباء بالوصول إليها. وتكرر الإعدام الميداني نفسه، للطفل محمد زكارنة، ابن الـ16 عاماً، الذي دهسه المحتلون بسيارتهم، ثم أطلقوا عليه رصاصة قاتلة، من دون سبب. ولا يمر يوم من دون أن يسقط شهداء فلسطينيون جدد بسبب إصرار الاحتلال على مواصلة اقتحام المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، خصوصاً مخيم جنين الذي صار عنواناً للصمود والمقاومة، ووصل عدد الشهداء الفلسطينيين منذ بداية العام إلى 50 شهيداً منهم ستة أطفال.
وامتلأت الصحف الإسرائيلية بمقالات صحافيين ورجال أمن سابقين، يشرحون فيها الفشل الأمني الإسرائيلي الذريع في إخماد المقاومة الفلسطينية أو وقفها. ومن أبرز المفارقات أنّ المواجهات الجديدة تحدُث بالضبط في الذكرى العشرين لمجزرة جنين التي صاحبت اجتياح جيش الاحتلال مدينة جنين وغيرها من المدن الفلسطينية، ومن كانوا أطفالاً صغاراً وقتها لا تتجاوز أعمارهم السابعة، أصبحوا مقاومين أشدّاء أكثر تصميماً على نيل الحرية، والتصدّي للظلم والطغيان، لكنّ المستعمرين لا يتعلمون بسهولة.
ويترافق الفشل الأمني الإسرائيلي مع فشل سياسي أكبر، لثلاثة مشاريع ومخطّطات روّجها حكام إسرائيل. إذ فشل مشروع التطبيع مع حكومات عربية، في تحييد القضية الفلسطينية أو تهميشها، وكان فعل فردي مقاوم واحد كفيلاً بسحب الأضواء عن اجتماع النقب التطبيعي، وتشتيت نتائجه. كما فشل التطبيع الذي يُنفّذ بوصفه جزءاً من صفقة القرن في تغيير مشاعر الشعوب العربية ومواقفها المتضامنة مع القضية الفلسطينية، بمن فيهم شعوب دول الحكومات المطبّعة، وإن كان مشيناً أن تعقد بعض هذه الحكومات صفقات لشراء الأسلحة، بمئات ملايين الدولارات، من دولة الاحتلال والأبارتهايد العنصرية التي تواصل قتل الفلسطينيين وقمعهم.
يثير سخرية الفلسطينيين مشروع "السلام الاقتصادي" بديلاً للسلام الحقيقي والعادل، وهو مشروع رثّ نفض عنه نتنياهو وترامب غبار الفشل للماضي
أما المشروع السياسي الثاني الذي تبنّته حكومة نفتالي بينت ولقي فشلاً ذريعاً، فكان مخطّط "تقليص الصراع" بدل إنهاء الاحتلال، والنتيجة المباشرة التي يراها جميع المراقبين هي توسّع دائرة الصراع وليس تقليصه، بل تعيد الأحداث المرّة تلو الأخرى تكرار ما يتغاضى الاحتلال عنه، أن الأراضي المحتلة تعيش منذ عام 2015 حالة انتفاضة من نوع جديد، تجري على شكل موجاتٍ تصل إلى الذروة أحياناً كما جرى في معركة القدس في شهر مايو/ أيار من العام الماضي، عندما اتحدت كلّ مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل، والأراضي المحتلة، والخارج للدفاع عن القدس.
المشروع الثالث، الذي يثير سخرية الفلسطينيين، هو مشروع "السلام الاقتصادي" بديلاً للسلام الحقيقي والعادل، وهو مشروع رثّ نفض عنه نتنياهو وترامب غبار الفشل للماضي، وأعادوا صياغته في إطار صفقة القرن، ليتبنّاه وزير الجيش الإسرائيلي غانتس، ورئيس حكومة إسرائيل نفتالي بينت. ويتمثل فشل هذا المشروع في أمرين واضحين: أنّ إغراءات التحسين الاقتصادي لم توقف النزوع نحو المقاومة والكفاح. وأنّ ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة هو حالة تردٍّ وتدهور اقتصادي، تترافق مع غلاء معيشة غير مسبوق ومعدلات بطالة تصل إلى 80% بين الشباب الخرّيجين في قطاع غزة، وإلى أكثر من 50% في الضفة الغربية. وما يجري في الواقع ليس تحسيناً اقتصادياً، بل تفاقم للفقر وانحدار أجزاء كبيرة من الطبقة الوسطى، بفعل منظومة الاستغلال العنصري التي تشكل جزءاً من نظام الأبارتهايد الإسرائيلي.
وتحاصر إسرائيل قطاع غزة منذ 16 عاماً، برّاً وبحراً وجوّاً، مدخلة إياه في أزمة اقتصادية مزمنة، وتدهور في الأحوال المعيشية، بما في ذلك تلوّث وملوحة 96% من مياهه، وانقطاع الكهرباء 14 ساعة يومياً، ومعاناة لا توصف للمرضى والفقراء، خصوصاً المعتمدين على مساعدات الشؤون الاجتماعية، وعددهم 750 ألفاً، لم يتلقوا أي مساعداتٍ من السلطة الفلسطينية منذ أكثر من عام، بسبب احتجاز إسرائيل مئات ملايين الدولارات من أموال الضرائب الفلسطينية التي يدفعها المواطنون من عرق جبينهم، وبسبب توقف المساعدات الأوروبية الخاصة بالشؤون الاجتماعية وغيرها. وفي الضفة الغربية، يستولي الاحتلال على 85% من المياه، ويخصّص 62% من مساحتها للتوسّع الاستيطاني، ويمنع الفلسطينيين من بناء البيوت، والمدارس، والعيادات الصحية، وروضات الأطفال في تلك المناطق.
فشل مشروع التطبيع مع حكومات عربية، في تحييد القضية الفلسطينية أو تهميشها
وفي حين يصل الدخل القومي للفرد في إسرائيل إلى 48 ألف دولار سنوياً، فإنّه لا يتجاوز 2400 دولار في الضفة الغربية، وبالكاد يصل إلى ألف دولار في قطاع غزة. مع ذلك، يُجبَر الفلسطينيون على دفع أسعار البضائع حسب تسعيرة السوق الإسرائيلي، بل يجبَرون على دفع ضعفي ما يدفعه الإسرائيلي ثمناً للكهرباء والمياه، وأربعة أضعاف ما يدفعه لقاء الخدمات الصحية في المستشفيات والمرافق الصحية الإسرائيلية. ولا يتورع غانتس وبينت، وهما يلوكان الكلام عن "التحسين الاقتصادي" عن فرض عقوبات جماعية على سكان محافظة جنين عقاباً على مقاومتها، لتنبري كلّ مناطق فلسطين الأخرى للتضامن مع جنين، والتوجّه إلى إسناد اقتصادها.
لن يستطيع حكام إسرائيل الخروج من دوائر الفشل التي يخطونها بأنفسهم ما داموا عاجزين، ورافضين إدراك حقيقة بسيطة، أنّه لا أمن ولا أمان ولا سلام ولا هدوء لهذه المنطقة من دون تلبية الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، بإنهاء الاحتلال وكلّ نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري الإسرائيلي. ولا يوجد ما يدلّ على أنّ سلوك هؤلاء الحكام يختلف عن سلوك الأنظمة التي مارست الاستعمار الكولونيالي، وعاندت وكابرت، مستخدمةً القمع والتنكيل، حتى وصلت إلى لحظةٍ أصبح فيها ثمن احتلالها واستعمارها أكبر من أن تستطيع احتماله.