الاتفاق السعودي الإيراني بين التكتيك والرؤية الاستراتيجية
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
توقعات وتحليلات كثيرة أعقبت الإعلان عن توصل الجانبين، السعودي والإيراني، إلى اتفاق على تطبيع العلاقات بينهما وتبادل التمثيل الدبلوماسي في غضون شهرين، في ختام اجتماعات وفدي البلدين في بكين، وقد تناولت تلك التوقعات والتحليلات، وحتى التكهنات والتخمينات، أموراً كثيرة، منها: الأسباب والتوقيت والمغزى والانعكاسات على الأوضاع الإقليمية، والموقع من الاصطفافات التي فرضتها الحرب الروسية على أوكرانيا، والدور الصيني المرتقب في المنطقة؛ خصوصا أن الاتفاق المعنيّ كان، وباعتراف الجانبين، حصيلة سلسلة لقاءاتٍ جمعت بين الطرفين في كل من العراق وعُمان على مدى العامين المنصرمين. وسيكون هناك مزيد من التحليل والتوقع والتساؤل بشأن هذا الموضوع مستقبلاً.
واللافت أن هذا الإعلان جاء بعد تصريحات وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، في مؤتمر ميونخ للأمن الشهر الماضي (فبراير/ شباط) بخصوص وجود أفكار بين الدول العربية للتعامل مع الموضوع السوري. حتى أن بعضهم توقّع انفتاحاً سعودياً على سلطة بشار الأسد بعد تسيير جسر جوي مباشر إلى مطار حلب لنقل المساعدات إلى ضحايا الزلزال، وعلى أثر زيارات دبلوماسيين عرب ووفد البرلمانات العربية دمشق. هذا بالإضافة إلى زيارة بشار الأسد مسقط، حيث استُقبل رسميا، للمرّة الأولى منذ انطلاقة الثورة السورية في مارس/ آذار 2011.
والأمر الذي أثار الانتباه في البيان الذي صدر عن اجتماعات الوفدين خمسة أيام ما ورد عن توافق البلدين على تفعيل اتفاق التعاون الأمني بينهما، وهو المبرم عام 2001، وتفعيل الاتفاق العام للتعاون الاقتصادي التجاري الثقافي الذي يعود إلى 1998. كما وردت ضرورة احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها، وهي إشارة أوحت بتساؤلات عدة، منها: هل ستشمل هذه النقطة التدخّلات الإيرانية واسعة النطاق، عميقة البعد والتأثير، وهي التدخّلات التي تشمل جوانب كثيرة، سيما العسكرية والأمنية والسكانية منها في كل من سورية والعراق ولبنان واليمن، أم ستقتصر على ما هو في دائرة اهتمام البلدين في المرحلة الحالية؟ من الصعب الإجابة عن التساؤلين راهناً، في ضوء توافق البلدين على عدم الإفصاح عن كل المسائل التي جرى التوافق عليها.
المطلوب السعودي والإقليمي لن يتحقّق ما لم تكن نوايا النظام الإيراني صادقة، بعيدة عن تقيّته المعهودة
ومن الجدير بالذكر أن العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين كانت مستمرّة رغم كل الخلافات، ولم تنقطع إلا بعد مهاجمة مقرّبين من النظام الإيراني، وربما عناصر أجهزته، البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران عام 2016، وقبل ذلك كانت العلاقات قد قُطعت عام 1987 على أثر قضية الحجّاج الإيرانيين في منى ثم أعيدت عام 1991. والوضع الطبيعي على صعيد العلاقات بين الدول التي تعترف ببعضها وجود البعثات الدبلوماسية مهما كانت الخلافات، لتكون أقنية التواصل من أجل تخفيف التوترات، وحل العقد أيام الأزمات، وتفعيل سبل التفاهم والتعاون والعمل المشترك في أيام الوئام. لهذا، تعدّ عودة العلاقات الدبلوماسية بين دولتين هامتين في المنطقة، مثل السعودية وإيران، من الركائز المطلوبة لتحقيق الاستقرار الإقليمي؛ وهي خطوة ضرورية مهمة، لكنها غير كافية، فالسعودية بما تمتلكه من إمكانات ووزن عربي وإقليمي ودولي، ورمزية دينية في العالم الإسلامي عموماً، السنّي تحديداً، يمكنها أن تمارس بنهجها الاعتدالي، سيما في ضوء الإصلاحات الواعدة على صعيد إعطاء مزيد من الدور للمرأة السعودية، واعتماد سياسة الانفتاح في المجتمع، والبرامج الاقتصادية والثقافية والعمرانية الطموحة، ضغطاً ناعماً على الموقف الإيراني الذي اعتمد سياسة التمدّد في مجتمعات المنطقة ودولها بمختلف الأساليب، عبر اعتماد سياسة استغلال المظلومية المذهبية لتحقيق أهداف توسعية تحت شعار "تصدير الثورة"، غير أن المطلوب السعودي والإقليمي لن يتحقّق ما لم تكن نوايا النظام الإيراني صادقة، بعيدة عن تقيّته المعهودة. وهذا من الصعب التكهن به في ضوء المعطيات الراهنة، فمن الواضح أن الاحتياجات الخاصة بالنظام الإيراني هي التي دفعت به إلى اتخاذ هذه الخطوة. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى الاحتجاجات الشعبية الواسعة المستمرّة في إيران منذ مقتل الشابة مهسا أميني في 16 سبتمبر/ أيلول، في أثناء احتجازها لدى أجهزة النظام المعني بتهمة عدم توافق حجابها مع اللوائح المعمول بها. وإلى جانب الوضع الداخلي الإيراني المضطرب، هناك الضغوط والعقوبات الدولية المفروضة على إيران، نتيجة عدم الوصول إلى توافق بينها وبين المجتمع الدولي حول ملفها النووي، هذا إلى جانب موضوع التدخّل الإيراني في شؤون دول المنطقة، وهي تدخّلات بلغت درجة التحكّم بالقرارات، وإدخال الأسلحة والمليشيات وقوات الحرس الثوري، والتغلغل عبر الأذرع أو بصورة مباشرة في المؤسّسات السيادية، وفرض الإملاءات عليها، بل واستنزاف مواردها المالية، كما هو عليه الحال في العراق.
ما تميّزت به السياسة السعودية الخارجية بصورة عامة عقودا توازنها وتأنّيها واعتدالها
ومن الواضح أن كل طرفٍ يحاول تفسير الاتفاق، وتوظيفه، وفق ما يتناسب مع سياساته وتوجهاته، فبينما أعلن الجانب الإيراني عن أهمية هذا الاتفاق في توحيد الموقف الإسلامي في مواجهة المخطّطات الإسرائيلية؛ أعلن الجانب السعودي عن أهميته بالنسبة إلى تحقيق الاستقرار والازدهار في المنطقة، مع تركيزٍ على اليمن.
ما تميّزت به السياسة السعودية الخارجية بصورة عامة عقودا توازنها وتأنّيها واعتدالها. وذلك كله ينسجم مع حجم السعودية ودورها وإمكاناتها على المستويين الإقليمي والدولي. ولعل هذا ما يفسّر مراقبتها تطبيع بعض الدول العربية مع إسرائيل، من دون أن تتحمّس للمطبّعين أو الرافضين جهود التطبيع. والأمر نفسه فعلته مع من سعوا، ويسعون، من أجل تعويم سلطة بشار الأسد تحت شعارات إنسانية، أو مصالح قومية عليا، أو ضرورة مواجهة التحدّيات الإقليمية.
بالنسبة إلى إسرائيل، لدى السعودية مبادرة قديمة طرحها الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز حينما كان ولياً للعهد على مؤتمر القمة العربية في بيروت في 27 - 28 مارس/ آذار 2002، وهي المبادرة التي تبنّتها جامعة الدول العربية تحت اسم مبادرة السلام العربية (مبادرة الأرض مقابل السلام)؛ واعتبرت حينئذٍ بمثابة تحوّل في الموقف العربي من مقاربة موضوع حلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الأمر الذي اعتُبر، في ذلك الوقت، خطوة واقعية نحو سلام أوسع وأكثر استدامة بين العرب والإسرائيليين. لكن دولا عربية، بناء على حساباتها الخاصة، آثرت الإقدام على معاهدات سلام مع إسرائيل بصورة فردية، من دون أي التزام بحل واقعي مطلوب بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الأمر الذي أدّى، كما نرى على أرض الواقع، إلى ترجيح كفّة المتشدّدين في المجتمع الإسرائيلي، وتراجع القوى اليسارية والديمقراطية؛ ما ساهم من ناحيته في عملية تشكّل حكومة يمينية تُعد الأكثر تشدّداً في إسرائيل؛ لا تقيم أي وزن للمبادرة السعودية - العربية، ولا لحلّ الدولتين الذي التزمته القرارات الدولية، كما التزمته الدول ادائمة العضوية في مجلس الأمن، بما فيها الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي لإسرائيل.
لن يُحلّ الموضوع السوري من دون التفاهم مع الجانب الإيراني أولاً، وهذه الحقيقة لا تخصّ الوضع السوري وحده، بل تشمل لبنان والعراق واليمن
وتدرك السعودية تماماً أن سلطة بشار الأسد، رغم تبجّح الأخير في مختلف المناسبات بنصر مزعوم، ما كان لها أن تستمرّ لولا التدخل العسكري الإيراني المباشر وغير المباشر (عبر مليشيات من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان)، لذلك لن يُحلّ الموضوع السوري من دون التفاهم مع الجانب الإيراني أولاً، وهذه الحقيقة لا تخصّ الوضع السوري وحده، بل تشمل لبنان والعراق واليمن. ومن الواضح أن الموضوع الأخير يهمّ السعودية أكثر من غيره، وذلك لتأثيره الحيوي على الأمن القومي، السعودي تحديداً، والخليجي على وجه العموم. وفي هذا السياق، يُسجل للسعودية موقفها غير المندفع بخصوص تعويم سلطة الأسد، وهو موقفٌ يتقاطع مع الموقف القطري، ويتمايز عن مواقف دول عربية أخرى عديدة، منها دول خليجية.
إيران قوة إقليمية هامة، لذلك من المفروض، نظرياً على الأقل، أن تكون للتفاهمات بينها وبين السعودية بشأن إعادة العلاقات، وتأكيد مسألة ضرورة احترام سيادة الدول، نتائجها الإيجابية التي ستنعكس على واقع المنطقة إذا صدقت النيات. ولكن تجربة عقود من الشعارات الكبرى الرنانة، والممارسات التخريبية من النظام الإيراني، لا تبشّر، ولا توحي بالمصداقية المطلوبة التي يمكن الركون إليها، والبناء عليها، لتتّسع دائرة التفاهمات الإقليمية، بهدف وضع حد لمختلف أشكال التوتر والتصعيد والعنف في المنطقة، وتمهيد الطرق أمام إمكانية مناقشة مختلف القضايا على طاولة المفاوضات، على أمل الوصول إلى توافقات، ولو في حدودها الدنيا، على مشاريع حلول واقعية مقبولة للمشكلات الموجودة، على أساس احترام تضحيات شعوب المنطقة وتطلعاتها. وربما كان من المناسب في هذا المجال التفكير مستقبلاً في عقد موتمر يجمع بين دول الإقليم، سيما المحورية منها، تشارك فيه الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وممثلون عن الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأفريقي، بهدف تشكيل إطار ضامن لما يتم التوافق عليه لمصلحة شعوب المنطقة وأجيالها المقبلة.
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.