الإقامة في النهايات

03 يناير 2023

(محمد مراني علوي)

+ الخط -

على المستوى الشخصي، كانت سنة 2022 مرهقة، كما هي السنوات التي سبقتها، يرافقها نوعٌ من الرضا بسبب استمرار العمل والإنجاز، مع شيء أسمّيه تجربة الشعور بملامسة "النهايات". ولا أقصد بـ"النهايات" هنا الاحتفال شبه الطقسي بنهاية العام وولادة عامٍ جديد، وإنما أن ترى أن قصّتك الشخصية شارفت على النهاية.
بالعودة إلى الوراء؛ لن تبدو التجربة مميّزة وفريدة من نوعها، لأنها تكرّرت أكثر من مرّة، ليس آخرها النجاة من ظروف الاحتراب الأهلي في بغداد (2005 - 2007)، أو تلقي التهديدات بسبب مقالة أو منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم الاضطرار، قبل ثلاث سنوات، لمغادرة العراق بسبب تهديدات جديّة على الحياة من جماعات مسلّحة.
في السياق العراقي، لن تبدو هذه التجربة في المواجهة عبر سنوات طويلة وبانتظام مع "النهايات" وفقدان الشعور بالطمأنينة الكاملة، أمراً استثنائياً. لقد مررنا كأفراد بهذه المواجهات أكثر من مرّة، ومررنا جميعاً كشعب وأمة بتجربة نهايات موحّدة، كما حصل في يناير/ كانون الثاني 1991 حيث كنّا نراقب بأعيننا تدمير بلدنا بأحدث الأسلحة ومن قبل تحالف دولي، لم يكن يبدو أنه يريد، وحسب، معاقبة صدام حسين على جريمة احتلال الكويت، وإنما معاقبة شعب كامل، صادف أنه، في تلك الأوقات، مغلوب على أمره ولا دور له في الصراع الدائر.
تحدّثت إحدى الصديقات ذات مرّة، كيف أنها كانت عائدة، في تلك الأيام، من المدرسة أو من بيت لأقاربها، حين رأت بيت العائلة قد هدّ بالكامل فوق رؤوس من فيه، إثر قصف عنيف في حرب 1991، ولم يبق منهم سوى هذه الصديقة التي كانت طفلة. إنها تجربة نهاية مروّعة لا يمكن نسيانها.
كانت الأيام والأسابيع التي أعقبت الاحتلال الذي أسقط نظام صدّام حسين في إبريل/ نيسان 2003 بالنسبة لكثيرين هي مواجهة مع تجربة نهاية، نهاية نظام ودولة في الوقت نفسه، خصوصاً مع عمليات السلب والنهب، وغياب سلطة القانون.
تجربة مواجهة النهايات تعني، على المستوى المادي؛ اقتراب الموت، أو الدخول التدريجي فيه، وعلى المستوى النفسي أو المعنوي؛ فقدان المعنى. والشعور بالضياع واهتزاز العالم وفقدان القدرة على الحكم، بما يكوّن في محصّلته مزيجاً قاتماً يقطع الصلة مع الزمن القادم، وينهي الفضول أو الرغبة بالتعرّف على هذا الزمن القادم، أو اليأس من الوجود في زمن قادم، مهما كان شكله.
ما يحصل غالباً أننا نقيم فترة في هذه "النهايات"، حتى نكتشف شيئاً فشيئاً أنها ليست نهايات جديّة حقاً، وأن الزمن يستمر، ويعيد المعنى تشكيل نفسه في سياق جديد، معنى الحياة، ومعنى استمرارنا فيها. كما هو الحال مع فقدان الأهل أو الأقارب، أو الطلاق، أو النزوح والهجرة. تغيّر العالم من حولك يقذفك في مواجهة مع نهاية المعنى في هذه الحياة.
الشعور المرير بمواجهة النهاية حدث في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 حين واجه الشباب المتظاهر في بغداد وساحات أخرى في مدن الجنوب العراقي حقيقة أن تظاهرات تشرين العظيمة قد انتهت، فأزيلت الخيم من ساحة التحرير وسط بغداد، وفتحت الشوارع من جديد. ولم تحقق التظاهرات الاستثنائية وغير المسبوقة، والتي استمرّت قرابة العام، شيئاً واضحاً وملموساً، أو هكذا على الأقل كان الشعور المهيمن على نفوس الشباب في وقتها.
شيء مشابه حدث مع انسحاب الصدريين، واستيلاء قوى الإطار الشيعي الموالية لإيران على مقاليد السلطة في العراق، بمستوى سيطرة غير مسبوق منذ عشرين عاماً. قال معلّقون كثيرون من الطرفين، المؤيدين والمعارضين: إنها النهاية. ولكن الأحداث اللاحقة صارت تكشف أن الزمن يتحرّك، ويعيد تشكيل المعنى، على وفق معطياتٍ لم تكن موجودة سابقاً، وأنه لا نهاية حقيقية، كاملة وقاطعة لما بعدها.
تجربة الشعور بمواجهة النهايات، التي عايشها العراقيون، بقدر ما تخلّف شعوراً بالأسى والإحباط، فإنها تعلّمنا، كما يفترض، أنها ليست نهايات تامّة، وأن من الضروري عدم إنفاق وقت طويل في "الإقامة في النهايات"، والمسارعة لمواكبة التحوّلات، ومحاولة فهمها، وتشكيلها، إن أتيحت الفرصة لذلك.