الإقامة في المستقبل
خصّصت مجلة نيويورك تايمز عدداً منها في 1996 لموضوع الحياة في المائة عام المقبلة، قدّم فيه صحافيون وعلماء اجتماع وكتّابٌ ومصمّمو أزياء وفنّانون وفلاسفة أفكارَهم، ولم تستشر المجلة عالِماً واحداً، في هذا الخصوص... والأرجح أنّ الذين قاموا على تلك الفكرة أرادوا للخيال أن يجنّح ويحلّق، لا أن يقول العلمُ حقائقَه ورهاناتِه. وأميل هنا إلى أن قرائحَ أهل الأدب والفنون والفلسفة والدرس الاجتماعي أقلُّ قدرةً من أهل العلم على استكشاف المناطق الشاسعة التي يتطلّع العقل، المشتغل بالعلميِّ والمخبريِّ والتقنيِّ والمحسوس، إلى أن يطأها، ليس فقط لأن المجاز والاستعاريَّ من أدوات الذاتيِّ المُفرد، فيما الذاتُ هناك غائبةٌ، أو مختفية، وإنْ قد تحضُر طاقةً شخصيةً للدفع بالتجريبيِّ والعقلي. ولك أن تسأل: هل تخيّل الشاعر أو التشكيلي أو المسرحي... في القديم والحديث من مجرى الفنون والآداب الإنسانية شيئاً مما أحدثه العلم في أي حياةٍ للبشرية في مختلف أطوارها؟ ليست القصّة أن شعراء ومسرحيين تخيّلوا تفاصيل القمر، وأن بعضاً منهم تصوّروا ناساً هبطوا فيه، قبل أن يُحدِثَ علماء روس وأميركان هذا. وليست القصّة أيضاً في خيالات شعراء قدامى جالت في الذي في وُسع النطّاسيين أن ينجزوه للعليل الذي فيه سقمٌ أو أرقٌ. إنما القصّة في أن حياةً أخرى يصير عليها الإنسان كلما تقدّمت التقنيات والاختراعات والاكتشافات: هل في وُسعك، قارئ هذه الكلمات، أن تتخيّل نفسَك مستغنياً عن الهاتف الجوّال؟ هل تستقيم حياتك طبيعيّةً لو تحرّرت منه؟... الموضوع هنا فقط، لأن جديدَ أهل العلم يعني جديداً في الحياة نفسها وإيقاعاتِها، للأفراد والمجتمعات.
أرتجل هذه الخاطرة التي تداعت إليَّ كيفما اتفق، بعد إنصاتي، عرَضاً، لحديث مختصٍّ في الذكاء الاصطناعي وما أتاه، في تسارع منجزاته، من ممكنات. وأجدني أتوقّع أن البشر، في العموم، سيعبُرون إلى حياةٍ يكون استخدام هذا الذكاء (وبرامج وتطبيقات و... إلخ) من الطبيعيِّ اليوميِّ المعتاد فيها، فيصبح حاجةً وضرورة، تماماً كما أن الإنسان استغنى عن الخيول والسفن في أسفاره لمّا صارت الطائرات والمطارات. وكما انتهى من إرسال البرقيات والمكاتيب في مكاتب البريد، بعد الذي نحنُ فيه، في عالم "واتس آب" والمكالمات الهاتفية المجّانية، وتبادل الرسائل الآنيّة بغير وسيلةٍ وطريقة.
أتذكّره ذلك الكتاب "رؤى مستقبلية... كيف سيغيّر العلم حياتَنا في القرن الواحد والعشرين"، المترجَم إلى العربية في 2001، لمؤلّفه عالم الفيزياء (والحاصل على الدكتوراه في الفلسفة أيضاً!)، ميتشيو كاكو، ونشرته جامعة أوكسفورد في 1998. (صدرت ترجمتُه في سلسلة عالم المعرفة الكويتية). ولأن لكل ذاكرةٍ ثقوبُها، أعود إليه، وقد تقادَم، فألقاني أندهشُ من أنه يخصّص فصلاً عنوانه "الكوكب الذكي"، من بين فصوله الستة عشر في غير شأنٍ تنبّأ فيه بمنجزاتٍ (وثوراتٍ) تقنية وعلمية، كـ"الثورة البيوجزئيئة"، و"ثورة الكمبيوتر".
يأتي عالم الفيزياء على ما كتبه روائيٌّ أميركي، اسمُه ناثانيل هاوثورن، في عام 1851، متعجّباً من "ربط المدن الكبرى في العالم بواسطة التلغراف من هذه المادّة السحرية التي تُدعى الكهرباء، والتي تستطيع إرسال شاراتٍ عبر آلاف الأميال، وتجعل الآلات الخاملة تقفز فجأةً إلى الحياة". وتُغوي العالِم عبارة الروائي "الكرة الأرضية الوعرة دماغٌ كبيرٌ وعقلٌ وغريزةٌ وتتّسم بالذكاء"، وأنه يتصوّر يوماً رائعاً "تمنح الكهرباء فيه العالم ذاته ذكاءً كونياً"... لا تصادف في الذي استرسلَ فيه صاحب الكتاب، المثير والشائق، مفهوم "الذكاء الاصطناعي". وإنما، يأتي أولاً على ما يتوقّعُه علماء الكمبيوتر (في أثناء إعداد الكتاب الصادر قبل 26 عاما)، حتى عام 2002 (صار وراءَنا)، عالماً بكامله يزدهر حول الإنترنت: التجارة والصيرفة والمدارس والجامعات الافتراضية والأسواق والمكتبات السيبرانية ... إلخ. ثم يأتي إلى ما يًطلَق عليه "الطور الرابع" من الكمبيوتر، أي الذي نصبح فيه قادرين على التواصل مع الإنترنت كما لو كانت شخصاً ذكياً. يكتب "...، وقد تعمل هذه المرآة السحرية التي منحت نظاماً ذكيّاً يتمتّع بالذوق والتفكير وجهاً إنسانياً وشخصيةً مميّزةً تعمل مستشاراً أو مساعداً أو كاتم أسرار أو سكرتيرة أو خادماً أو هذه الأعمال جميعاً في الوقت ذاته".
لن أُصاب بمثل دهشة ذلك الروائي، ليس لأن حاسّة الاندهاش صارت ضعيفة لدينا، في زمن الثورات التقنية التي نعيش، وإنما لأننا نقيمُ في المستقبل الذي تصوّر فيه عالم الفيزياء شاشة الكمبيوتر على كلّ هذا الذكاء.