الإعلام سلطةً أولى في العراق
أُطلِق مصطلح "السلطة الرابعة" على الإعلام، لبيان تأثيره في الرأي العام بعد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على التوالي. ولأهميته ووسائله المختلفة، بات الإعلام يؤكد حضوره عالمياً بعد تطور تقنيات وسائله ودخول وسائل التواصل الاجتماعي وسيطا ناقلا ومصدرا للأخبار والأفلام والتقاريرن لتعلن، وبسرعة مطلقة أيضاً، عن ولادة ما يسمّى "الإعلام الجديد".
وفي حركة شعوب العالم المختلفة، ساهم الإعلام بالتهيئة لثوراتٍ شعبية وإسقاط حكومات وإحداث تغييرات إصلاحية وتعزيز قيم المشاركة السياسية والتحولات الديمقراطية، وغيرها من الأدوار التي تعتمد، إلى حد كبير، في قوتها وتحكّمها على طبيعة علاقتها مع الدولة وحجم الحريات ومستوى الرقي القانوني السائد في هذا البلد أو ذاك. كما أنه قد يساهم في توجيه المجتمع وفق برامج الإغلاق الفكري السياسي وتعمية الرؤية الحقيقية لمصالح الشعب خدمةً للقيادة السياسية وأهدافها، وهو ما يظهر بوضوح في الأنظمة الاستبدادية أو الدول المفّككة والهشة.
في العراق، الذي شهِد انقلاباً كبيراً وجذرياً في نظامه السياسي بعد الاحتلال الأميركي له عام 2003، كان من أول قرارات سلطة الاحتلال في 23 أبريل/ نيسان 2003 قانون رقم 14 المتضمن حل وزارة الإعلام، وإيقاف إصدار الصحف والمجلات ووسائل الإعلام التي كانت تصدُر أبان حكم النظام السابق. وفي يونيو/ حزيران 2003، صدر القرار المرقّم 6 الذي نصّ على تأسيس شبكة الإعلام العراقية، بوصفها هيئة مستقلة للإعلام، تحلّ محلّ وزارة الإعلام المنحلّة. وحدّدت قوى الاحتلال ضوابط العمل الإعلامي لتتمكّن من التحكّم باتجاهات الرسائل الإعلامية، بما لا يتقاطع وبرنامجها في العراق، وكُلِف المتحدث الرسمي والمشرف السابق على سلطات الأمم المتحدة في كوسوفو، سايمون هالسوك، بالإشراف عليها، وتنظيم الأنشطة الإعلامية في العراق.
أكثر وسائل الإعلام في العراق تموَّل من أموال الفساد، وتحوّل بعض الإعلام سلاحاً يُشهَر عند الحاجة ضد الخصوم
إضافة إلى فضائية "العراقية" وصحيفة "الصباح" الناطقتين باسم الحكومة العراقية، واللتين أنشأتهما شبكة الإعلام العراقي، بدأت فضائيات وصحف وإذاعات عراقية عديدة بالظهور تباعاً، كان بعضها، وهو قليل جداً، يمتلك مؤسّسوها أو مديروها والعاملون فيها خبرات إعلامية جيدة، فيما كانت غالبية وسائل الإعلام رديئة الأداء وسيئة الرسالة، سعت قوات الاحتلال بدايةً إلى دعمها جميعاً بأموال كبيرة، بهدف تلميع الصورة الأميركية – البريطانية، وأيضاً لضمان استمرارها في أداء مهامها بتسميم أفكار العراقيين وممارساتهم، وإحداث الفرقة بينهم، لبلوغ أحد أهم أغراض الغزو والاحتلال؛ وهو تدمير بُنى أواصر مكونات الشعب العراقي، ثم تجريده من هويته الوطنية.
لم تستمر طويلاً الولايات المتحدة بتمويل وسائل الإعلام العراقية؛ إذ سرعان ما تولّت دول بعينها، وخصوصا إيران، تمويل هذه الوسائل، كُلٌ بحسب توجهه وبرنامجه في العراق، فتحوّلت الواجهات الإعلامية للأحزاب والقوى الممثلة بالعملية السياسية في العراق إلى فوضى سياسية - دينية طائفية، شحنت الشارع العراقي بكل أسباب الفِرقة، ومزجت عن عمد الصادق بالكاذب من القصص الإخبارية والوقائع التاريخية، وكانت من أهم أسباب التطهير العرقي والتغييب القسري والقتل على الهوية والتهجير ثم التغيير الديمغرافي.
وبعد أن ظهرت قوة الإعلام السائب، وليس الحر، في العراق، وحجم تأثيره في اتجاهات الرأي العام، بدأت أكثر وسائل الإعلام تموَّل من أموال الفساد، وبدأت أحزاب وشخصيات سياسية تراهن على مستقبل بقائها السياسي أو استمرار نفوذها على ما تمتلكه من وسائل إعلامية يُظهِر من خلالها المهاترات والفضائح المتعلقة بشركائه في العملية السياسية، فتكون بذلك سلاحاً يُشهَر عند الحاجة، وهكذا يفعل الآخرون من دون بلوغ الخطوط الحمراء، وبما يضمن سلامة جميع الشركاء والمتوافقين في هذه العملية.
55 فضائية وحوالي 290 صحيفة و120 إذاعة أغلبها تحض على الكراهية
وبعد مرور حوالي عقدين على إنشاء شبكة الإعلام العراقية، لدينا في المشهد الإعلامي العراقي أكثر من 55 فضائية وحوالي 290 صحيفة وأكثر من 120 إذاعة. تفيد ملاحظات الدارسين والمتابعين بأن أغلب هذه الوسائل، باستثناء مؤسسات إعلامية يمكن وصفها مستقلة إلى حدٍ ما، تمارس الحضّ على الكراهية وتجهيل الرأي العام، ونشر قيم، خصوصا الدينية منها، لا تمتّ للقيم الدينية الصحيحة بصلة. ولكن، ولأن وسائل الإعلام الممنهجة عقائدياً تمارس نشر رسائلها الإعلامية على مدار الساعة، باتت تأثيراتها واضحةً في الرأي العام العراقي، وخصوصا من الناحية النفسية؛ حيث تُنفِس عن غضبهم وتُخرج ما في قلوبهم على الفاسدين سُرّاق الشعب، والقتلة والمتعاملين مع قوى الاحتلال، فتقدم لهم من البرامج والرسائل ما لا يستطيع المواطن فعله بنفسه، بسبب خشيته من عقاب (وغضبة) المليشيات التي يمتلك قادتها هذه الوسائل الإعلامية.
لهذا كله أصبح الإعلام السلطة الأولى في العراق، وليس الرابعة، وباتت الوسائل الإعلامية عبئاً على كل السلطات، بسبب فوضى برامجها وتعلق الشعب بها، كلٌ حسب توجهه وطائفته وهواه، وأيضاً بسبب الإسناد المتبادل لأركان العملية السياسية في العراق بعضهم بعضا من خلال ما يمتلكونه من وسائل إعلامية.