الإصلاح في الأردن لا يتحقق بالتأزيم
لم يتوقع أردني أو أردنية أن يرى أو يسمع خبر أن حكومة بلده أو من يمثلها تجاوزت خطوط المألوف والمتعارف عليه في قضايا مجتمعية وسياسية، وحتى جنائية، وخالفت قيما أخلاقية وأعرافا وتقاليد يحترمها المجتمع الأردني، بجميع مكوناته وأطيافه. إذ صُدم كثيرون من ظروف اعتقال معلمات ناشطات في العمل النقابي والعام، بعضهن في أماكن عملهن وأخريات أمام أطفالهن وفي وجود أمني في غرف نومهن، على ما أفصحت شهادات بعضهن في وسائل إعلام إذاعية محلية.
حتى في أشد الظروف السياسية ضراوة، بدءا من نشأة الدولة وتأسيسها، وعلى مدار مائة عام، كان مما يميز العقل السياسي الأردني تبنّيه قيم التسامح والاحتواء مع أشد المعارضين شراسة، ليس لسياسات بعينها فقط، وإنما أيضا دوائر الحكم بذاتها أحيانا. وحتى في أيام عاصفة الربيع العربي (إن سلمنا بتسميتها كذلك)، كانت المملكة الأردنية ربما الدولة العربية الوحيدة التي انحنت لتلك "العاصفة"، وتجاوزتها باقتدار. وتكرر في تلك الأثناء على مسامعنا مفهوم الأمن الناعم، وتداول ناشطون وناشطات صور وجود رجال الأمن في ساحات التظاهر بوقفات محسوبة، بل وزّع بعضهم ماء على المتظاهرين والمتظاهرات.
يعاني الشارع الأردني اليوم من أزمة ثقة عميقة، ويسأل أسئلةً لا يجد لها أجوبة
يعاني الشارع الأردني اليوم من أزمة ثقة عميقة، ويسأل أسئلةً لا يجد لها أجوبة، وإن يعرفها الشارع على الأغلب سلفا، ولكنه يحتاج لمن يتطوّع فيواجه بشفافية ويذكرها بصدق، في غياب الإعلام الواضح أو على الأقل الإعلام الذي يطرح الأسئلة الصحيحة ويكتب تحليلا وقصصا تلامس الواقع، بعيدا عن نشر الأخبار والتقارير التي يجري تداولها على "مجموعات الواتساب".
يقول المنطق إن الأردنيين ليسوا ضد تطبيق القانون، بل على العكس يطالبون به، فهو ما يضمن قيم المواطنة والمساواة والعدالة، ويساهم بتطبيق مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، ويمهد الجو العام لتطبيق قانون الانتخاب الذي تجري مناقشته حاليا في مجلس الأمة (بشقيه المنتخب والمعين)، وقانون الأحزاب الذي أقرّ وينتظر تجهيز الأحزاب وتأهيلها لخوض انتخابات قادمة نضمن فيها مشاركة الشباب والمرأة وتمكينها سياسيا. ولكن كيف لهذا المشهد الطموح أن يتحقق فيما تتراكم الممارسات الحكومية غير المبرّرة، خصوصا الاعتقالات العديدة، ليس لناشطات فقط، وإنما أيضا للحراكيين في مختلف المحافظات، من دون سند قانوني يدعم تلك الاعتقالات، كما قال قانونيون ونواب وناشطون؟ كيف يمكن تمهيد الطريق للمشاركة الحزبية والنقابية التي هي بالمناسبة رغبة ملكية، شرحت وفصلت في أوراق نقاشية مهمة، وأفصح عنها الملك عبد الله الثاني نفسه في أكثر من مناسبة، وتدّعي حكومات متتالية أنها تسعى إلى تنفيذها؟ إلا أن الأردنيين والأردنيات يلمسون قرارات ويرون ممارسات تعرقل تلك المهمّة.
الإصلاح لن يتحقق إلا بالشراكة والانفتاح على كل المكونات وسماع جميع الأصوات
كفل الدستور الأردني نفسه حق العمل النقابي والتظاهر والتجمع السلمي لجميع الأردنيين والأردنيات، إلا أن التضييق على كل من يرفع صوته بالحوار والنقاش، سواء بالممارسات القمعية، كما عوين أخيرا في اعتقالات وتوقيف صحافيين وصحافيات، حتى لو ساعات في المطار. وقد أعلنت السلطات المختصة بعد هذه الوقائع أنها لن توقف أي صحافي عمّم عليه طلب قضائي في المطار، وتسمح له بالدخول لاستكمال المطالبة القانونية بحقه، ولكن حوادث معدودة أشارت إلى زيادة تراجع الثقة بالأداء والإجراءات الحكومية ونيتها الجادّة بالإصلاح، وقد ذكر تقرير "مراسلون بلا حدود" أخيرا إن ستة صحافيين في الأردن حوكموا بسبب عملهم.
يجب أن يقتنع كل من له علاقة بصنع القرار في الأردن بأن أي مواطن أو مواطنة لا يرفع الصوت وهو لا يرغب بالتغيير، إذ كان في وسعه، ببساطة، الانضمام إلى فئة الأغلبية الصامتة، أو فئة الأقلية المستفيدة، أو تلك التي تأمل بأن تكون ضمن تينك الفئتين أو إحداهما، أو ببساطة كان في مقدوره البقاء ضمن الأغلبية المغلوب على أمرها، والمغيّبة بالبحث عن لقمة العيش بسلام.
لا يرفع الصوت إلا من يرغب بأن يكون شريكا في التغيير والمصلحة العامة للأردن، على أمل أن يجتاز عتبة المئوية الثانية وهو ينعم بالإصلاح الذي لن يتحقق إلا بالشراكة والانفتاح على كل المكونات وسماع جميع الأصوات، ومحاربة الفساد بأشكاله وتحييد الفاسدين والمفسدين، فالإصلاح لا يتحقّق بالتأزيم.