الإسلام التونسي ومعضلة التطرّف العلماني

25 أكتوبر 2022

(نصر ورور)

+ الخط -

مؤسفٌ أن تُهمّش الذاكرة الوطنية والعربية شخصياتٍ عظيمة وهي بين أظهرها، أرى اليوم الشيخ عبد الفتاح مورو من أبرزهم تونسياً، وهو العنصر المؤسّس لحركة الاتجاه الإسلامي، والقيادي في عدة دورات من ميلادها وتغير اسمها، حتى وصلت إلى إعلان حركة النهضة أخيرا، في ثوبها السياسي بعد الثورة، فلم يكن الرفيق لقائدها الشيخ راشد الغنوشي وحسب، ولكنه كان الثلث المؤسّس ثم المشرف التنفيذي الذي نشر دعوتها، حتى عودة الغنوشي من المنفى. وقد عزّزت مراجعتي سيرته المهمة فهم تاريخ تونس الحديث، عبر ذاكرته في برنامج "شاهد على العصر" على شاشة قناة الجزيرة، ما كنتُ أعتقده منذ زمن، أنّ عبد الفتاح مورو قائد فكري في صفوف الإسلاميين، سبق زمن أزمتهم بمراحل. وحين نقول أزمة فهي أزمة تفكير وتأصيل وجسور مقاربة عجزت عن نقل الفكر الإسلامي في ميدانه الوطني، وإلى مشروع حياة وتنمية وشراكة وحرث حقوقي سياسي، يندمج ويختلط مع كفاح الإنسان العربي البسيط، ومع الطموح المشترك لكل شرائح الشعب الاقتصادية والثقافية.
ورغم كلّ النقد الموجّه إلى حركة النهضة، إلا أنها اخترقت خطوطاً مهمة في هذا الاتجاه، وتستحق أن يُثبّت لها فضل تجاوز تونس مدار المصادمة الدموي الأول، الذي لم يكن له أن يتحقّق لولا تنازلاتها. ومن الظلم تحميلها اليوم مسؤولية ما آلت إليه أوضاع تونس، من خلال ميلاد عهد فرعوني خطير، تتصاعد فيه نرجسية الفرد المقدّسة للذات، والتي تكرّرت في أقطار عربية عدة، وهي اليوم منتخبة من الشعب! ولا يزال جزء مهم منه يطصفّ مع الرئيس رغم حملته الأمنية والسياسية على كل مسار المشاركة الشعبية وفصل السلطات،  إنها أزمة عميقة تحتاج إلى تحليل تفكيكي، يشمل المجتمع ونشأة الفكر السياسي، وطبيعة تعلّق الإنسان العربي، بثنائية الاستقرار السياسي والحد الأدنى من الحظ المعيشي.

آلة سياسية وإعلامية صاخبة، لم تدّخر مساحة لملاعنة الغنوشي و"النهضة" إلا صدّرتها

ورغم أنّ هذا المستوى لم يتحقق للشعب في مصر، بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي على الثورة، بل ساء حالُه، ولا في تونس بعد انقلاب سعيد على الدستور، لكنّه بعدٌ مهم لا يمكن لأيّ حركة سياسية إلغاءه، لتطرح سؤال ما هي الخطوة الأولى التي تشغل بال الشعب بعد الانتفاضات، ويعبث المشروع الانقلابي في مشاعر الناس عبرها، ولذلك كان التوافق على الحد الوطني الأدنى مخرجاً مهماً لدول الربيع العربي. لكن ذلك لم يضمن لتونس العبور الديمقراطي، رغم أن السقف رُفع كثيراً في خطاب الثورة، ولعبد الفتاح مورو نظرية مختلفة، لا يسعنا تفصيلها اليوم، ولكنها جاءت في تأكيده على أن تكاليف مساحة التقدّم للواجهة السياسية في الحكم كبيرة جداً، وأن آلية التعاطي الأولى لا تزال بعيدة عن الإسلاميين. وبالتالي، كان من المهم أن تنسحب من هذه الواجهة، وتتعامل مع موجة الربيع العربي، على أنّها مرحلة للتدريب والمشاركة في الشأن الوطني، والمدافعة البرلمانية لا منصّة الحكم.
قضية صعبة بالفعل، فرؤيتا الشيخ مورو ومخالفيه في الحركة تحتاجان مساحة تفكيك ونقد. ولم تكن أخطاء الشيخ راشد ومحازبيه، في تقديري، خارج دائرة الاجتهاد، وهناك اليوم إرث لحالة اختلاف وتمرّد على الشيخ راشد، قبل بروز أرضية انقلاب قيس سعيّد وبعدها، بعضها مدلل بخلل استفراد الشيخ وتراجعه عن خطابه التصحيحي لواقع الحركات الإسلامية، وتمديد عمره السياسي والحركي الجبري، وبعضه في رفض آلية اجتهاد الشيخ راشد والمقرّبين منه.
كان ذلك كله يجري في ظل آلة سياسية وإعلامية صاخبة، لم تدّخر مساحة لملاعنة الغنوشي و"النهضة" إلا صدّرتها، ولم تكن فقط بسبب مشروع أبوظبي، الذي فشل في دورته الأكثر شراسة في عهد الباجي السبسي، ولكنها اليوم موغلة في التطرّف، من فريق العلمانية الإقصائية المتشدّد في الاتحاد التونسي العام للشغل وغيره. أي أنّ هذا الترس العلماني المتعاظم ليس ذراعاً أوجدها سعيّد لتحقيق الانقلاب، ولكنه مساهمة تطوّع وشراكة متحمّسة، لاستثمار الانقلاب في خنق "النهضة" والفكرة الإسلامية، وتعزيز قوة الاستبداد الفردي، بناء على أنه أضمن للطائفة العلمانية المتطرّفة، وتأمين نزعتها الأيديولوجية، وسلوكياتها ونزواتها، مقابل حقوق الشعب وصوته وقراره في المشاركة الشعبية.

الإسلام قاعدة تحرير فكري ومدني، تمرّد على الإرث العثماني المريض مبكّراً، وهذا ما يحرج قوى التطرّف العلماني

وكما أؤكّد دوماً إن تعاطينا مع التطرّف العلماني العربي يخصّ جماعاته ومحازبيه، وليس رفضاً لحضور (وشراكة) الشخصيات والحركات العلمانية المعتدلة، ذات الضمير الأخلاقي، كنموذج المناضل الوطني التاريخي أحمد الشابي، لكن هذه الفكرة، أي تحويل العلمانية العربية إلى طائفة تريد تأمين حظوتها الشخصية، وفرض نمطها السلوكي أو نزوتها على الناس، كانت مدخلاً كارثيا في مصر، وهي تمتد اليوم إلى تونس. وقد ظلت هذه الكتلة المنحازة تشنّ هجومها على حركة النهضة وإسلاميي تونس، من خلال أزمة الإسلام السياسي، وهو مصطلحٌ لا أصل له في المفهوم الإسلامي المعرفي، ولا قاعدة البلاغ الأخلاقي، ولكنه بات يحضُر في جدل الإسلاميين والدولة، والمجموعات الحزبية الإسلامية ومشروعها الخاص. وأمام هذا التترس هناك حكاية أخرى رواها الشيخ مورو، تهدم هذا الفصل المكرّر في تبرير الانحياز العلماني التونسي المتطرّف.
لقد قدّم الشيخ مورو الذي تتناول هذه المقالة صفحةً من رحلته فقط تعريفاً مهما بعلاقة تونس الأرض والكرامة والاستقلال والحرية، بل واتحاد الشغل ذاته، بالإسلام التونسي، الذي سبق التنظيمات الحزبية، وخاصة قوالب الإخوان المسلمين، فعبد العزيز الثعالبي، القيادي المؤسّس في الحزب الدستوري، ومحمد الفاضل بن عاشور وفرحات حشاد القيادي المؤسّس لاتحاد الشغل، وخير الدين التونسي الفقيه الإصلاحي الدستوري، لم يكن لهم أي علاقة بتنظيمات الإسلام السياسي. وكان فكرهم أوعى من العقل الحزبي الدعوي، وهم من قادوا انفتاح الشعب، فكان الإسلام قاعدة تحرير فكري ومدني، تمرّد على الإرث العثماني المريض مبكّراً، وهذا ما يحرج قوى التطرّف العلماني، كون تلك النخبة كانت في صفّ الوطنية التحريرية ضد فرنسا وضد الاستبداد معا، فأين يصطفّ الانحياز العلماني التونسي اليوم؟

18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
مهنا الحبيل
مهنا الحبيل