الأوراق الفيدرالية العربية
يمرّ العرب بفترة تاريخية عصيبة منذ أكثر من قرن. فبعد ضعف الإمبراطورية العثمانية وسقوطها، وتكالب الدول الاستعمارية الأوروبية على أراضيهم، وَجَدوا أنفسهم يعيشون في دول عدة توصف بأنها مستقلة ذات سيادة، وتتطلع إلى التقدّم والتنمية. وبعد عقود قليلة، اتضح جلياً أن نوعية الدول التي قامت مختلفة تماماً عن نمط الدولة الحديثة، وأن هذه الدول أضاعت فرص التنمية وأهدرت الاستقلال الوطني. هذا فضلاً عن الهزائم العسكرية لهذه الأنظمة أمام المحتلين في فلسطين، وتبعيّتها للخارج، وتَبخُّر هدف الوحدة العربية الذي ظل عقوداً طويلة حُلماً يراود كثيرين من أبناء هذا الوطن العربي الكبير.
مثّلت ثورات عام 2011 فرصة للتغيير وامتلاك الإرادة الوطنية، إلا أن ضعف النخب والقوى السياسية التي تصدّرت المشهد السياسي وتكالب خصوم هذه الثورات في الداخل والخارج عليها أهدر هذه الفرصة، لتدخل المنطقة في صراعات صفرية، أعادت دول المنطقة إلى الوراء من جديد، بل وأجّجت الانقسامات، ودفعت شعوب المنطقة ومقدّراتها إلى عمليات من الإفناء الذاتي.
طريق العرب لاستعادة أوطانهم وامتلاك حكوماتهم واستخدام مقدّراتهم لصالح الشعوب طويل، وظهر جلياً أنه أصعب وأكبر من معارك التحرير التي خاضتها الشعوب في السابق ضد الاستعمار، فالمواجهة اليوم تجري في وجه خصوم مستترين وراء مقولات زائفة وخادعة: خصوم في الداخل يستخدمون شعارات الوطنية والاستقرار والأمن والتنمية ومحاربة الإرهاب، بينما هدفهم زرع الطائفية وتطبيع الفساد وترسيخ الوضع القائم، وخصوم في الخارج يرفعون شعارات برّاقة حول حقوق الإنسان والحداثة، بينما سياساتهم الحقيقية تقوم على الهيمنة وسلب مقدرات الشعوب وإدخالها في صراعات عدمية.
طريق العرب لاستعادة أوطانهم وامتلاك حكوماتهم واستخدام مقدّراتهم لصالح الشعوب طويل
في هذا السياق التاريخي الصعب، وبرغم افتراق المثقفين والمفكّرين العرب، إلا أن أملاً لا يزال في أن يتصدّى نفرٌ منهم لهذه التحدّيات والقيام بواجب الوقت الذي عليهم القيام به. لقد امتلأت مؤتمراتنا ومجلاتنا العلمية وصحفنا ومواقعنا الإلكترونية بأوراق وتنظيرات ودراسات ومقالات لفهم الواقع وتشخيصه، وسيستمرّ فريقٌ منا في هذا العمل الأكاديمي والصحافي، فهذا أمر مطلوب وضروري، لكن الوقت حان لأن تقترن هذه الأعمال البحثية والصحافية بأعمال أخرى تقترح الأفكار التي تقدّم الحلول والمعالجات الممكنة وتطرحها للاستفادة منها أو مناقشتها أو للانطلاق منها لوضع أفكار ومعالجات أخرى أكثر فائدة منها.
كان من مزايا الثورة الأميركية أن تَوافَر لها رجالٌ اتسموا بسعة الأفق وعمق التفكير والقدرة على تقديم المعالجات والحلول وعلى العمل المشترك، بدلاً من تقييد أنفسهم في مساحة التشخيص والنقد فقط، أو تثبيط الهمم وتبرير العجز والفشل، كما يفعل مثقفون كثيرون في بلادنا. وكانت الأوراق الفيدرالية التي قدّمها هؤلاء بمثابة علاماتٍ هادية، ساهمت في إيجاد الحلول أو تم البناء عليها لاحقاً، ولا يزال الناس يعودون إليها للاستفادة منها. وبالمنطق نفسه، يمكننا الحديث عن رواد النهضة الأوروبية الآخرين في القرنين السابع عشر والثامن عشر الذين وضعوا الفلسفات والأفكار الكبرى التي جرى تحويلها إلى مبادئ للتنظيم لاحقاً، والتي على أساسها شيّدت المؤسسات والهياكل التي قامت عليها النظم والمؤسّسات الديمقراطية.
في عام 1979، شرع عالم السياسية الأرجنتيني، غييرمو أودونيل، ومجموعة من علماء السياسة من أميركا اللاتينية في مشروع بحثي في الولايات المتحدة تحت اسم "التحوّلات من الحكم الاستبدادي" (Transitions from Authoritarian Rule). اتّهم هؤلاء وقتها بأن عملهم هذا يقع ضمن "التفكير بالتمنّي" (wishful thinking)، بالنظر إلى أن بلدان أميركا اللاتينية كانت آنذاك ترزح تحت وطأة الحكم العسكري المدعوم من الغرب. رَفَضَ هؤلاء هذه الانتقادات، وأشار أحدهم إلى أن ما يقوم به هذا الفريق البحثي نوع من "التمنّي المدروس" (thoughtful wishing). وبالفعل، كانت المجلدات التي أنتجوها بحثاً مُعمّقاً يقوم على توجه معياري أو قيمي (رفْض الحكم التسلّطي والعسكري والانحياز للديمقراطية والحريات) وعلى أسس علمية وتجريبية، حسب معايير البحث العلمي الصارم.
يقول أحد الحكماء: لا يغرق المرءُ لأنّه سقط في النهر، بل لبقائه مغموراً تحت سطح الماء
إننا في حاجة إلى مثل هذه الأعمال، وربما إلى "أوراق فيدرالية عربية"، وإلى تنوير من نوع جديد، تنوير يزرع الأمل أمام الشعوب العربية البائسة، ويُظهر إمكانية التغيير إلى الأفضل، ويبرز أهمية العمل من أجل هذا التغيير على مستوى الأفكار والقيم أولاً، وعلى مستوى العمل والتحرّك على الأرض في كل المساحات الممكنة ثانياً. إننا بحاجة إلى أفكارٍ تعيننا على الخروج من حالة استضعاف الذات والتقوقع حول مقولة "ليس بالإمكان أفضل مما كان" نحو عالمٍ مختلفٍ تماماً، ندافع فيه عن مصالحنا وحقوقنا وعن أحلامنا أيضاً. عوامل القوة ليست مادّية فقط، بل هناك عوامل قوة ناعمة تأتي في طليعتها قوة الأفكار، وقوة العمل المشترك، وقوة الاستفادة من الفرص الصغيرة، وقوة العمل التراكمي مع وضوح الصورة الكبيرة والغايات النهائية.
لا يجب أن نبدأ من الصفر، لدينا أفكارٌ كثيرة نيّرة كتبها مفكّرون وباحثون منذ نهاية القرن التاسع عشر، من أجل فهم واقعنا وجذور مشكلاتنا، وسبل النهوض، ومواجهة الفساد والطائفية والغلو في الدين والتمييز والتعصب الفكري والاحتلال والتبعية، التي لا يجب تجاهلها، بل الاستفادة منها والبناء عليها. يقول أحد الحكماء: لا يغرق المرءُ لأنّه سقط في النهر، بل لبقائه مغموراً تحت سطح الماء.