الأسد وأبالسةُ الحدث السوري

31 يوليو 2024
+ الخط -

باتت سورية منطقة أنقاض متصلة برمزيات وحساسيات حكم "الأبد المقدّس"، وليس ضرباً من حسبةٍ عبثيةٍ الإقرارُ بأنّ بشار الأسد كان أسيرَ الفهم السطحي للسياسة في تعاطيه مع الأزمة السورية، وعلى نسقٍ مطّرد من السذاجة السلطوية انجرّ "طوعاً" إلى ساحة "أبالسة السياسة" التي يُمارَس فيها كلّ أنواع المؤامرات والدسائس. وما يمكن غنمه من مخرجات هذه اللعبة القذرة، في تصوّره، هو الممكن الوطني الوحيد! وعلى نحوٍ يُبقي الكارثة السورية ماثلة، وبعد فشله الذريع في استيعاب المُتحقِّق والمُمكن تحقيقه، غدت سياسات الأسد ممسحةً للبلاد، وأداة لتمرير الخضوع لواقع كارثي من دون اعتبارٍ للثوابت الوطنية. وفي هذا ما يطرح سردية فجائعية في هامشٍ سوري يُخبر أكثر ممّا يوحي، يعزّزه متنٌ غاصّ بصراعات ومنازعات جعلت من مصير الأسد رهناً بتعقيدات المشهد السياسي والتحالفات الدولية المتشابكة. وبينما يذهب الزعيم الألماني، أوتو بسمارك، إلى أنّ السياسة فنّ الممكن، يؤكّد الجنرال الصّيني سون تزو، في كتابه "فنّ الحرب"، أنّ "قمّة الحكمة والتفوق في أنْ تحصل من الخصم على ما تريد من دون قتال". في المقابل، عجز الأسد عن استشراف المستقبل، ليجعل من قنص غنائم المستحيل ممكناً، فذهب إلى الأسوأ عندما زجّ البلاد في ميادين التمكين والترويض، معتقداً أنه واحدٌ من أربابها وفرسانها. وإذا صحّ ما تقدّم حرفياً، ستغدو الأزمة السورية تراجيديا أليمة، معلّقة نهايتها، فالسياسة بالنسبة إلى بشار الأسد متعة المساومة على مستعمرةٍ خاصة دخل والده إليها على ظهر دبابة، "فاتحاً". وهذا نزرٌ يسير من الشؤم في موازاة التسليم أن الابن تبنّى منطق القطع مع المسلّمات التاريخية، لذا لم يستوعب أنّ المنتصر هو الضليع في فنّ تمييز ما يمكن إنقاذه، وأنّ شعرة معاوية التي ما انقطعت بينه وبين الناس يوماً كانت سبب تجنّب الفتنة في الشام رغم غليانها.

وبُغية إحراز قدر أكبر من الوضوح، لطالما غاب عن بشّار الأسد فكرة أنّ السياسة ليست عملية ذهنية بسيطة تنتهي بنزع فتيل الواقع المتفجّر، بدلالة أنه ألحق هزائم هائلة بالسوريين، لكنه عاجز حتى اللحظة عن تحقيق أيّ نصرٍ حقيقي، فسياسته لا تتعلق بما هو صحيح أو أفضل، بل بما يمكن فعله لحماية عرشه، عبر استنفارٍ كامل الدسم ضد عالم عدائي مُتربّص، عبثاً. وحسب ما تدلّ عليه وقائع تاريخية تُروى، فإنّ أغلب من أتقنوا "فنّ الممكن في زمن المستحيل" استطاعوا العودة بقوة إلى الميدان. ويبدو أنّ الأسد لن يعود زعيماً مطلقاً في ساحات الحسم، والمثال الأبرز في السياق تورّطه الكارثي في بيع سورية بالتقسيط لكلّ من إيران وروسيا، ثم فشله في الخروج من جلبابهما، بعدما ضاق عليه هامش المناورة!

كان بشار الأسد أسيرَ الفهم السطحي للسياسة في تعاطيه مع الأزمة السورية

وعليه، يعمل الأسد حثيثاً على فكّ الارتباط التدريجي بإيران، خصوصاً، من خلال عزل نفسه عن أحداث الجوار، وفتح أبواب التسوية مع دول المنطقة، حتى التي كانت حاضنة رسمية للمعارضة، كتركيا التي أكد وزير خارجيتها، هاكان فيدان، استعداد أنقرة لتحويل علاقتها بالمعارضة من داعم لها إلى وسيط بينها وبين النظام لتحقيق المصالحة. إذن، لا خيار آخر أمام الأسد الذي اكتشف أنّ وجود إيران في سورية أبعد وأعمق من موضوع ديون مالية، وأنّ تدخلها "الأخلاقي"، على حدّ تعبير وزير الخارجية الإيراني السابق، حسين أمير عبد اللهيان، يفضح جوهر المشروع الفارسي، وقد يكون الحبل الذي سيجرّ السوريين إلى حافّة الجحيم، بعد تهديداتٍ إسرائيلية صريحة بشأن فتح الجبهة الشمالية مع لبنان بغية القضاء على أذرع إيران في المنطقة، ما سيضع سورية، حكماً، في عين العاصفة، حتى وإن لم تكن الحرب بغطاء سوري مباشر.

وليس من باب التنطّع القول إنّ طهران ستزيد ضغوطها الخانقة على دمشق بخصوص ضرورة الانسحاب التركي من سورية، والنظام ما زال يراوغ ويماطل. يدلّ على ذلك أنّ بشار الأسد، خلال انتخابات مجلس الشعب السوري أخيراً، كان واضحاً في الردّ على الدعوات التركية إلى الحوار بقوله: "لا نضع شروطاً لإعادة العلاقات مع تركيا، بل نتحدث عن متطلبات يفرضها القانون الدولي". وممّا يبدو حاضراً بقوّة في السياق وجود انعطافة حادّة، بل وانقلابية في تصريحات الأسد ومواقفه، بعدما أصبح محاطاً بوقائع متعارضة لا يستطيع التحرّر منها. فها هو يظهر وحيداً في انتخابات مجلس شعبه، لا تسنده زوجته "العصرية" أو تباركه ابتسامة الثقة الخاصة بمستشارته "الشقراء". وعلى غير عادته، لم يوزِّع ضحكاته الصفراء أو يسوّق نكاته التهريجية السمجة، وكأنّ لعنة سوداء حوّطت مزاجه السياسي "الهزلي"، تفضح تورّطه في مواقف لا يُحسد عليها. فمن جانب، يواجه ضغوطاً هائلة من إيران لجهة قطع الطريق أمام أيّ تقارب (سوري - تركي) محتمل، ومن جانب آخر، تبارك روسيا هذا التقارب، بهدف تحقيق استقرار إقليمي يخدم مصالحها الاستراتيجية. لذا أحضرت الأسد إلى موسكو قبل أيام، في زيارةٍ مفاجئة لا يمكن عدم ربطها بالتحولات الإقليمية والدولية المستجدّة. زيارة بلا جدول أعمال أو إعلان وصول وعودة، ليبدو الأسد، مجدّداً، يتيماً سياسياً، لا يرافقه مسؤول أو مترجم أو حتى حارس يعزّز هيبته، وكأنّ نظيره الروسي يتقصّد زجّه في مشهد سافر يفضح دوره الحقيقي الراهن. "رئيس وظيفي يحضُر عند الطلب فقط". ضغوطٌ قاهرة، لا شك، تضع الأسد على "المحكّ السياسي"، وتضيّق أنفاسه وهوامشه، خصوصاً بعد إدراج اسمه على لوائح المطلوبين للمحكمة الجنائية بتهمة استخدام المواد الكيميائية في قتل السوريين.

تلتفّ إيران على مماطلات الأسد باستخدامها القوة الناعمة، إثر فوز كلّ مرشّحي "قائمة شام" في انتخابات مجلس الشعب، المدعومة منها

وفي الحقيقة، ليس ثمّة نبوءة صادمة، لكن تبعات مأساوية ستكون لها بالتأكيد. الإدراك أنّ "أبالسة" الحدث السوري متمسّكون بالبقاء في سورية، بينما خسر الأسد ميدان الممكن والتمكين. فها هي إيران تلتفّ على مماطلات الأسد باستخدامها القوة الناعمة، إثر فوز كلّ مرشّحي "قائمة شام" في انتخابات مجلس الشعب السوري، والمدعومة منها، في حين لم يفز من باقي قوائم المستقلين سوى مرشّح واحد. على التوازي، يربط وزير الدفاع التركي، يشار غولر، شروط حكومته للانسحاب من سورية بالوصول إلى "حلّ سياسي شامل". وبلا آلياتٍ تغيّر ذاتية، يؤكّد الرئيس الروسي أنّ بلاده لا تفكّر حالياً في الخروج من الأراضي السورية. سبق هذا كله أنّ مجلس الشيوخ في الكونغرس الأميركي أجهض مشروع قرار يطالب بانسحاب القوات الأميركية من سورية، بالتزامن مع انطلاق مناورات تدريبية بينها وبين "قوات سوريا الديمقراطية"، إلخ.

نافل القول، في ظلّ المعطيات الراهنة، يبدو أنّ أيَّ ملمح لحلّ الأزمة السورية إغراقٌ عبثي في التفاؤل، رغم تأكيد الكاتب التركي، سرهان أركمان، أنه لا توجد مؤشرات ملموسة إلى أنّ عام 2024 سيمرّ في سورية كغيره، متوقّعاً تبدّل ظروف الهدوء النسبي لتحلّ ديناميكيات جديدة، ما يدفع إلى طرح السؤال الجوهري: هل يستيقظ السوريون أخيراً على واقع مختلف يأتي ضمن سياقات فشل بشار الأسد في استيعاب سياسة الممكن وما يمكن إنقاذه في زمنٍ سوري حرج؟ هو الذي يتحرّك من حفرة إلى أخرى، ومن فشل تاريخي إلى آخر، متعاطياً مع الوضع المستعصي القائم بالعقلية السطحية نفسها التي تعكس، من دون أدنى شك، التعفّن المزمن لذهنية "الأسد إلى الأبد"، نموذجاً للتعنّت السياسي المُقاتِل، والقاتل في آن واحد.